أنا وخالتي ستيتة
بقلم/ وفاء ماضي
أمضيت طفولتي فريدة فقد كنت بنت وحيدة، مضت بي مرحلة الدراسة الابتدائية، وأنا في كل عام أنتظر انتهاء العام الدراسي، وبداية فصل الصيف الذي أعشقه منذ نعومة أظافري وإلى الآن، رغم أني مواليد فصل الشتاء، كنت انتظره بشغف كي أذهب إلى قريتنا لقضاء عدة أيام وربما تطول المدة إلى أسابيع، لن أنسى مدى العمر تلك الأيام السعيدة في بساطتها وتلقائيتها فأنت تفعل كل شيء وأي شيء بتلقائية دون تصنع أو حذر، كنت دائما أنزل في ضيافة خالتي ستيتة؛ زوجة عم أحمد الذي يعمل أجيرا في أرض أبي الزراعية رحمة الله عليهما، كان يزرع، ويحصد ويبيع ثم يأتي إلى مدينتنا مرتين في العام ليعطي أبي حصيلة ما باع دون أن يكلف أبي أي مشقة، أو عناء في أي شيء، أنتظر بشغف حضوره كي أذهب معه إلى القرية، وكيف لا وأنا أنال في ضيافتهم كل تدليل، وأحظ بمعاملة أميرة بنت أمراء وكانت دائما تناديني خالتي ستيتة بياستي كنت أرد عليها ببراءة الطفولة وأقول لها هو في خالة تقول لطفلة ياستي؟!
تضحك وهي تغطي فاها بطرف الطرحة، وتقول: العين متعلاش على الحاجب ياستي، ثم تقول قوليلي ياستيتة بس من غير خالتي أحسن عمك أحمد يبهدلني، أقول لها لأ أنت خالتي ستيته وهو عمو أحمد، تدعو لي قائلة ربنا يجبر خاطرك يارب ياست ندى، كانت تتخلل فترة بقائي عندهم زيارة من أمي محملة بكل مالذ وطاب من أنواع الطعام التي يتميز بها أهل المدن، وعندما تريد اصطحابي معها في العودة، أطلب منها وألح عليها أن تتركني كمان يومين أو ثلاثة ترضخ لطلبي على مضض؛ تقول البيت من غيرك ومن غير شقاوتك مالوش حس ولا طعم.
مرت السنون وكبرت وأصبحت في نهاية المرحلة الإبتدائية، وأنا لم أزل على شغفي بالقرية وبخالتي ستيتة وزوجها عم أحمد، كنت أجوب مع أطفال جيرانهم بيوت القرية ودروبها وحاراتها الضيقة التى يخال لك أنها من ضمن ساحات البيوت، نلعب في الحقول ونبعثر حبات القمح عن سنابلها، أشعر بسعادة تغمر كل كياني، نظل نتأمل ونراقب الثور وهو يلف بالساقية مغطى العينين بقطعة قماش بالية، وأركب معهم (النورج) وهو عبارة عن أريكة خشبية بمجموعة عجلات من المعدن الحاد الرقيق تجرها بقرة أو بقرة وثور بشكل مستقيم ذهابا، وإيابا فيخططا الأرض وينثر بعد ذلك عم أحمد الحبَّ، أشعر حينها وأنا جالسة على أريكته كأنني طيرا حرا طار عن قفصه، أشعر بحرية وتلقائية لم أنلها في بيتنا الواسع الكبير رغم جماله وفخامة أثاثه، تسعدني رؤية الخضرة التي تسود كل الحقول على مرأى كل البصر ومن كثرة اتساعها وكثافة خضرتها يخيل إلينا أن البعيد منها أسود اللون، وأحيانا نجلس نستظل تحت الأشجار التي تصطف على حافة الحقول وكانوا يضحكون مني وأنا أقول الحقل فيقولون لي يا بنتي اسمه الغيط، ومنهم من يتسلق شجرة الجميز، أو التوت ويحضر لنا الكثير من ثمارها، أو يقذفها بالحجارة الصغيرة فتتساقط علينا الثمار نلتهمها في فرح وسعادة .
ذات يوم وبعد عودتي من اللعب مع أطفال جيرانهم وجدت خالتي ستيتة وحدها بالدار واقفة بانحناءة قليلة قابضة بيدها على عمود السرير الحديدي وابنها الصغير يحبو تحت قدميها، تعض على شفتيها وهي تصرخ صراخاً مكتوماً مثل عواء الذئب، وتضغط على بطنها المنفوخ بقوة، وتتنفس أنفاساً متلاحقة استفسر متوترة ماذا بك يا خالتي؟
تقول: شكلي بولد، أسألها هل أحضر لك إحدى الجارات تصرخ قائلة: لأ لأ ياست ندى وتظل على حالها إلى أن ينهمر منها ماء ممزوجا بالدم يغطي أرضية الحجرة، أهرول بعيداً وأقف خلف باب الدار ممسكة بكلتا كفي وأجز عليهما بأسناني وكل عضو في جسدي يرتعد خوفاً وقلقاً عليها، فجأة تخر أرضا و تجلس القرفصاء، وبعد وقت من الأنين ينزلق منها طفلاً يصرخ، تلتقطه بيديها وتحتضنه وعرقها يتندى على جبهتها كرذاذ المطر على لوح زجاجي، تشير لي وتطلب مني بصوت خافت وهي تجفف عرقها بكم جلبابها أن أحضر لها قطعة مرآة صغيرة محدبة غير متساوية الأطراف معلقة بمسمار على الحائط، كنت أرى عم أحمد يحلق ذقنه ويضع طاقيته وهو ناظراً فيها فلا يرى غير جانب فقط من وجهه لصغر حجمها، يبدو أنني شردت، فتعيد علي الطلب قائله: اخلعي المراية من على الحيط وهاتيها ياست ندى بسرعة، أتعحب في نفسي هل هذا وقت مرآة.
وأنا خائفة أرتعد ومنظر الدماء على الأرض يفزعني ووجهها تشوبه زرقة مختلطة باحمرار، أسرع وأحضر لها قطعة المرآة ويالا هول مارأيت المرأة أمسكت بحبل يتدلى من بطن جنينها وقطعته بحرف المرآة الحاد ثم قطعت قطعة قماش من طرحتها، وربطت طرف الحبل الذي يتدلى من سرته، نهضت واقفة وهي تحتضن طفلها وتسير الهوينى حتى صعدت على سريرها بصعوبة واعتدلت جالسة ثم لفته بشال حريري كان ملقى بجوارها وألقمته صدرها وأنا أنظر إليها في ذهول مما حدث أمامي بعد أن ذهب عني الخوف وكلي رغبة في احتضان وليدها.
وفاء ماضي
Discussion about this post