لك أن تتخيَّل أن كل جمال العالم وقد صُبَّ في قالبٍ وأُفرِغَ أمامكَ فجأةً ،
لم تُمانع أن تكون صورتها على غلاف روايتي قيد الإصدار ، لكنها اشترطت عليَّ إجراء بعض الرتوش على الصورة واللعب بملامح الوجه قليلاً حتى إذا مارأى أحد من أهلها أو أقاربها صورة الغلاف لايستطيع أن يجزم أن الصورة تخصّها بالذّات طالما أنه يخلق من الشبه أربعين ،
لاأدري كيف جاءتني الجرأة لأطلب منها هذا الطّلب ولم يمض على تعارفنا إلا تلك الدّقائق القليلة التي جمعتنا على طاولة صغيرة في استراحة الحافلات على الطّريق العام بين حمص ودمشق ،
لحسن الحظ فقد كان هناك بعض المقاعد الشّاغرة في الباص ماجعلنا نجلس متجاورين في مقعد مزدوج عند انطلاق الباص ،
تناقشنا بفكرة الصّورة في الطّريق بعد أن تعارفنا جيداً .
ساعة من الزّمن كانت كفيلة بأن نحسم الأمر ونتوجّه سويّاً فور وصولنا إلى دمشق إلى دار النّشر حيث كانت روايتي في مراحلها الأخيرة ولاينقصها للصدور إلا طباعة الأغلفة ، وقد دفعها الفضول أن تعرف مضمون الرواية ، ماجعلني أطلب من صاحب الدّار إنزال ملف الرّواية على فلاشة كانت قد أخرجَتها من حقيبة اللابتوب الخاص بها علَّها تستطيع قراءتها قبل موعد لقائنا نهار الغد لتعطيني رأيها وتناقشني بموضوع الرّواية وتبدي ملاحظاتها على العمل ،
آخر اتصال بيننا تلك الليلة كان في الثّانية صباحاً وقد أخبرتني أنها انتهت للتّو من القراءة ،وقد حاولت جاهداً سماع رأيها مبدئياً ولو ببضع كلمات أو إشارات لكنها كلما ألححت عليها كانت تقول لي غداً نتحدث ،
ما الّذي أقلقني فلم أستطع النّوم تلك السّاعات المتبقّية من الليل ، أهو جمال تلك الفتاة التي لاتشبه إلا آلهة الحبّ والجمال عند الإغريق ؟ أم رأيها بالرّواية الّذي أبت أن تصارحني به عندما انهت قراءتها ؟
بعد تناوُل وجبة البوظة بالمكسرات ظهيرة اليوم التّالي ، تسكّعنا في سوق الحميدية بعض الوقت ، ومن ثم على الكثير من أرصفة المدينة في طريقنا إلى دار النّشر ، وقد كانت طيلة الوقت تبدي ملاحظاتها على العمل ، وللحقيقة لقد كانت ملاحظاتها تنمّ عن فهم دقيق لأفكاري الرّوائية وأسلوبي في الكتابة ، كما كان يدل على أنها تتمتع بثقافة عالية ، ماجعلني أوافقها على معظم تلك الملاحظات ، وكنت أبدي إعجاباً بكل ماتقوله ،
على الرصيف أمام مدخل دار النّشر توقَّفَت فجأة واستدارت بحركة سريعة لتواجهني ، وهي تحدِّق في عينيَّ قالت بلهجة آمرة :
ستُغيِّر عنوان الرّواية فوراً فلا تعجبني العناوين التّقليدية المطروقة والباهتة ،
وقبل أن أُجيبها تابعَت :
( النفق المظلم ) لايصلح عنواناً حتى لقصة قصيرة وهو غير أدبي ولايليق بعمل إبداعي بهذه الأهمية ، صحيح أن السّوداوية تطغى على تفكير معظم شخوص الرّواية ، لكن هناك جوانب مضيئة في تلك الشّخوص وهذه الجوانب هي التي يجب أن يُبنى عليها العنوان ،
قاطعتُها :
– ماتقترحين عليَّ من عناوين إذاً ؟
. هناك عنوان واحد لاغير ،
– ماهو ؟
. الشَّرَكْ ،
– ماالذي أوحى لكِ بهذا العنوان ؟
. أنت ،
– أنا ..!!
. نعم أنت ،
– كيف ؟!
. جرأتُكَ معي في الإستراحة من دون سابق معرفة أوقعني في شَركِك ،
ابتسمتُ لها وقد أعجبني اقتراحها في حين كانت تشبك ذراعها بذراعي وتتخطّى بي عتبة مكتب صاحب الدّار الّذي رحّب بنا بابتسامة عريضة ، وبعد أن طلب لنا فنجانين من القهوة قلت له :
قد نضطرُّ إلى تغيير عنوان الرّواية ،
لم يبدُ عليه الإستغراب من طلبي ، ومن خلال ابتسامته قال :
لقد بدأنا العمل على الغلاف ،
ثم تابعَ وهو ينظر إلى كِلينا نظرات تحمل معنىً معيناً موجِّها الكلام لي من خلال تلك الابتسامة الماكرة :
مازال بالإمكان استبدال الإهداء أيضاً بإهداء آخر وماعليك إلا أن تصوغ الاهداء الجديد بأسلوب جميل لمن يستحقّه ،
ثم استأذن بالخروج لعدة دقائق وتركني أقع في الشَّرك بمحض إرادتي .
احمد محمود حسن… بريصين 8|11|2023
Discussion about this post