“الحافلة”
يتحدثون
منهم من يحاول إسماع الجميع ومنهم من يهمس في أُذن جاره في المقعد أو جارته.
وصوت صباحي بنبرة النائم يتغنى بالصباح يرافق المذياع بلا توافق في الإيقاع وهو ينادي:” يا إخوان راكب واحد ،راكب واحد” .
يسرع رجل يحمل طفلاً بيده كيس تتطاير منه رقائق البطاطس ،تتبعه امرأة تخالها للوهلة الأولى أُختا لذلك الرجل أو شيئا منه أو كأنهما توأمان في اللهفة والحركة للحاق بالحافلة.
يستوقفهما السائق:” عذرا راكب واحد في الامام وانتم في الكرسي الخلفي”. ويشير إلى مقعد صغير قرب مقعده قد لا يتسع أصلا لطفل صغير.
يظهر شاب بلباسه العسكري يحاول القفز إلى داخل الحافلة مقذوفا بالخوف من التأخر من الوصول إلى عمله في عيونه بندقيه ليحمي الوطن ،يفرد كتفيه كحارس أمين ويشير على السائق بالمسير وهو يبحث في جيوبه عن باقي فكة ليكمل الأجرة راكب على الواقف.
وتبدأ أصوات وحشرجات المحرك وروائح الزيت تخترق الملابس.
ها قد تحركت الحافلة.
تسير الحافلة فتتمايل الرؤوس متناغمة كسمفونية ذهابا وإيابا.
يظهر من أسفل طرف المقعد حذاء لامع .تتحرك يد الراكب بقطعة قماش فوق الحذاء الوجاهي وتتوسع الابتسامة في كبر.
يريد لجميع الفرقة الموسيقية أن تراه .
يستمر العزف الصباحي متعال فوق ،تحت،الى اليمين ،الى اليسار على وتيرة واحدة.
سيدة بسيطة المظهر ،متواضعة الملابس مكتنزة الهيئة تجلس في وقار .
لعل أفكارها حملتها بعيدا إلى المكان الذي تنشده فلم تعلم أن هذه الحافلة ليست مقصدها.
لقد تزاحمت المشاهد المستقبلية أمام عينيها في تسارع خيالي فما علمت أنها ابتعدت عن المسار الصحيح حتى أيقظها صوت راكب يسأل عن الأُجرة؛فأجابت بما تعرفه عن الحافلة التي تقلها عادة إلى إبنتها التي وضعت مولودة بقيصرية .
كم تمنت أن تكون ولادة طبيعية لكنها تحمد الله على السلامة ،هكذا فكرت محملة بعض المسؤولية للقدر أحياناً أو لكلمة لو ،وتتلهف بحسرة! .
تستيقظ من رؤياها البعيدة على صوت راكب آخر يصحح لها ويخبرها أن الاجرة أعلى مما تقول!
لا ،كيف؟
ألسنا في حافلة…؟
لا
أنت ،أنا
أين أنا؟
توقف ،أُريد النزول هنا!
تحزن الرؤوس المتمايلة وبحركة واحدة :”لا،ياه!”.
يبادر البعض لتقديم المساعدة وتعلوا أصوات التنظير والنصيحة وطرح الحلول.
ينتهي الأمر بتوحيد العواطف والقرار أن يوصلها السائق لأقرب مكان ويزيد السائق من إحسانه ليوصلها بلا أجرة.
تتمتم بمجريات أفكارها متأسفة خجلة لكنها سعيدة بالمولودة الجديدة وسلامة ابنتها .
هي تخبر الجميع حولها لما يحدث .
تنظر إلى الخلف مرة مبتسمة ومرة شبه باكية ،مختلطة المشاعر في توق للقاء الحفيدة.
ومن بين الرؤوس المتمايلة كأفاع يحركها عازف المزمار بدهاء متمنيا أن الحضور لا يعرف الحقيقة في حركتها فيظنها ترقص طربا .
وأنا التي أجلس في الكرسي ما قبل الأخير أُراقب بلا فضول لكن المشهد أمامي لا أدري إن كانت بعض المشاهد من عقلي فقط وتحدث في مخيلتي أم أنها تحدث الآن كما أراها !.
يفوح عطر نسائي قوي.
إنها أخرى .
واحدة أُخرى من نساء الفرقة .
الآن نحن في قاعة عرس ،العروس والعريس .يفرح الجميع .
هكذا أراهم ،لما لا ،فهي عروس أو هذا ما يبدو فقلادة الذهب الدائرية عنوان لذلك ،هذا عرف العرائس !.
شريك حيي يحاول التناوم ليقترب بذقنه فيركن إلى كتفها أيضا ذهابا وإيابا متواصلا وباقي المجموعة التي تعرفون.
يعود السائق لحضوره بعد غياب طويل في هم الطريق أعباء لمّ الاجرة من الركاب .
عين على الطريق وعين في عقله تفكر في مفاصلة مع معلمة المدرسة والاكرامية في الرحلة المدرسية .يريد زيادة الأجرة في الرحلة القادمة .هذا كلام لا يجوز ،في كل مرة يرضخ لطلبات المعلمة ولا يكون الأجر كما يجب.
يريد أن يصطحب معه إحدى بناته .طبعا بعد موافقة الأم .
يسرح قليلا لكن عيونه جاحظة في الطريق .
هو يحفظ الطريق عن ظهر قلب غيبا .يكاد يقود الحافلة وهو مغمض العينين .
لا خوف هنا أبداً.هو يرسم طريقا غير الطريق ملؤه الأشجار والأزهار على جوانب الطريق ،قد لا يبدو رومانسيا من النظرة أو الصوت لكنه يعشق رائحة التراب اول المطر.
طالما أمل إلى ركاب يعشقون كما هو عاشق لصوت اغاني الحب .تخيل أن الركاب فراشات وطاروا معا .
يعود للواقع
يحرك يده بكيس جمع الأجرة وحاله يقول:”شخص أمين يا أهل الخير يجمع الاجرة .
يتبرع الرجل الجالس إلى جوار السائق فيحاسب أولا عن نفسه والعائلة في الكرسي الاخير .
يعود السائق إلى عالمه في تخيل أن الرجل سيجمع الأجرة وأنه لن يأبه به فيكرم ويتجاهل عن أحدهم بدعوة:”على حسابي!”.
فيتراجع الظن بأنه تسرع في منح هذا الرجل وسام لمّ الاجرة !.
ستصل الحافلة بزفرات النهاية شوقا للوقوف في المحطة الأخيرة .
وانا بينهم يميل رأسي كميلان رؤوسهم .
أحمل كتبي الجامعية وأُواضب على جلستي الأنثوية ،أُخفي إبتسامة خجلة وعيناي تراقبان كل الحضور وكأني على مسرح وكلهم جمهور ،من يراقب من؟.
أنا البطلة هنا لكني لا أُحدث صخبا لألفت الإنتباه . أكتفي برصد المواقف على قصاصة من ورق فأعود لأُدونها في مفكرتي ومن ثم على ورق .
أحيانا أُحرك الشخوص كما أُريد وأحيانا يتفوقون عليّ بواقعهم فلا ألبث أن أرضخ لهم .
الآن بعد أن غادرت الحافلة وأصبحت ذكرياتها على رفوف النسيان أُعاود فتح أوراقي القديمة لأجد هذه الحكايا ؛فأتذكر الحافلة وركابها وأكمل إلى حافلة أخرى في الحياة تحملني لمغامرات أكثر نضوجا.
ربما أكون أنا العروس في الحكاية وقد أكون التائهة العجوز .
المهم أني كنت معهم وقتها بذات الحافلة والرؤوس المتمايلة .
أمل زواتي /الاردن
Discussion about this post