الأستاذ أيمن العوادي يكتب عن:
هذه الرواية الفاتنة الساحرة للكاتب الروسي عظيم الشأن والقيمة والقامة الأدبية دوستويفسكي باهر الحضور في عالم الرواية التي تغوص في أسرار وسراديب النفس الإنسانية وأغوارها البعيدة السحيقة المحيرة
قرأتها منذ سنوات بعيدة كنت فيها مغرما مهووسا بالرواية الروسية التي برع فيها ووصل إلى ذروة شاهقة من قممها أدباء روسيا الكبار في القرن التاسع عشر الذين ملؤوا دنيا الإبداع الروائي بشموس وأقمار ولآلئ لا تبلى ولا تنسى ولا يخفت بريقها وألقها إلى الأبد
ورغم غياب تفاصيلها من خلايا الذاكرة المثقوبة بثقوب واسعة ظل عنوانها ” مُذلون مُهانون” يدق بقوة أجراس كنائس الأحد في صالة مغلقة لا تترك لذرة من ذرات رنينها المهيب الرهيب النفاذ خارج جدران العقل والقلب والروح
” مُذلون مُهانون” أصوات تتألم وهي حبيسة سجينة في صدري تتردد أصداؤها بلا توقف في الذاكرة الهشة التي تزيد من صراخ تلك الأصوات ووخزها ووجعها لكنها لا تجد لها مهربا ولا مفرا فتعود منكسرة تصرخ بصوت أشد وألم أقوى
” مُذلون مُهانون ” ما أشبه هذا العنوان في تصوري بهؤلاء الذين انحدرت نفوسهم بمسارات حياتهم إلى بئر لا قرار له مع احتفاظ أرواحهم بعنفوان وجموح ارتدادات هذا الإحساس وارتجاجاته العنيفة الصدى في نفوسهم المجهدة
” مُذلون مُهانون” لكنهم لا يتورعون عن إهانة وإذلال الآخرين ما وجدوا لذلك سبيلا ولا يترددون في التنمر والتربص ببعضهم البعض تحت دعاوى ومزاعم لا تنفد سياسية ودينية وثقافية واجتماعية وأخلاقية وقبلية وطائفية واقتصادية
” مُذلون مُهانون” لكنهم في كل مرة لا يقدرون على الحمير يذهبون إلى البردعة يوسعونها شتما وسبا وضربا حتى تبكي وتنزوي في ركن قصي وهي أشد شعورا وإحساسا بذلك من إحساسهم الجمعي
” مُذلون مُهانون” أشداء على أنفسهم ضعفاء أمام جلاديهم ولا مانع لديهم من تقديم فروض النفاق والتزلف لكل ذي سلطة ونفوذ وثراء مع المبالغة في الاهتمام بتوافه الأمور وإضفاء طابع هزلي على أهم شؤون وأمور حياتهم الخطيرة
” مُذلون مُهانون ” من كثرة القيود التي تكبلهم وطول البقاء في بيت الطاعة أصيبت مفاصل الحركة والتفكير والتضامن الجمعي لديهم بالتصلب فأصبحت أقل حركة وسكنة تصيبهم بخوف وانزعاج وألم شديد يجبرهم على الجمود والقعود حيث هم وعدم المغامرة
” مُذلون مُهانون “تظهر قيمة الأعمال الأدبية التي تنال بتعريتها وكشفها لخبايا النفس البشرية وإنسانية رسالتها العميقة صفة الخلود الذي يظل صداه يتردد في فضاء هذا العالم من شرقه لغربه ومن شماله لجنوبه والأهم ترسخه في فضاء الأرواح التي تتوق للحرية والكرامة لجميع البشر
Discussion about this post