قصة عائلة فلسطينية مهجرة مع جمال عبد الناصر
بقلم: ناجي ظاهر
لاحظت، وارجو ان اكون مخطئا في ملاحظتي هذه، ان الاحتفاء بالذكرى السنوية السابعة والاربعين، لرحيل الزعيم العربي الخالد- ابو خالد- جمال عبد الناصر، اكتسبت في اليومين الماضيين زخما غير مسبوق، فكتب ونشر، احياء لهذه الذكرى، العديدون من محبيه ومريده، وحفلت صفحات وسائل الاتصال الاجتماعي بكتاباتٍ تستعيد ذكراه وتحفل بالحنين اليه والى ايامه العذاب. اذا اصابت ملاحظتي هذه، يضحي السؤال عن سبب هذا الاحتفاء مشروعا، وتبات الاجابة عنه اجتهادًا مُحببًا، من ناحيتي لا اريد ان اجتهد في الاجابة، وانما اجتهد في طرح سؤال بلاغي قد يتضمن، في عمقه، اجابة ناجعة، هذا السؤال هو: هل بتنا نشعر بالهزيمة الكاسحة فعدنا لإحياء ذكرى زعيم من العسير ان يتكرر؟ هل اظلم ليلنا الى هذا الحد.. حتى بتنا نحلم بشعاع من نور يأتي من اعماق الظلام الدامس المحيط بنا؟ مهما تكن الاجابة لا يفهمنّ أحدٌ انني اقلل من قيمة رجل اتفقت الملايين على انه اسطورة العصر، وقيل فيه ما لا يتطلب مزيدًا.
لن اتحدث هنا عن جمال عبد الناصر، حياةً وفلسفةً، ولا عن حياته الشخصية او العامة، فقد كتب عن هذا الكثير، الكثير، انما سأتحدث عن علاقة عائلة فلسطينية مهجرة، أنا أحد افرادها، بهذا الزعيم الانسان، الذي ملأ الدنيا طموحا، حلما واملا ومضي ذات يوم غائم حزين من عام 1970، في اعقاب احداث ايلول الاسود، التي قضى فيها الآلاف من اهلنا الفلسطينيين خلال مواجهات مع القوات الاردنية، بإمكان الاخوة القراء التوسع في المعلومات عن هذه الاحداث من شبكة البحث العنكبوتية، وها هي السنوات تمضي زاحفة نحو نصف قرن من الزمن، وكأنما هي لحظات.
تعود علاقتنا بعبد الناصر، الى الستينيات تحديدا، وكنت في طفولتي استمع الى اسمه يتردد في بيتنا المستأجر في الناصرة، بعد ان طُرد الاهل من قريتنا سيرين، واذكر جيدا اننا كنا نتحلّق في تلك الفترة حول الراديو، كلما سمعنا عن خطاب يتم بثه له، ونستمع الى خطاباته الملأى بالحلم والامل، فنشعر بأن النهار قادم بعد ليل، ولم نكن بدعة في هذا التحلُّق، وانما كان الناس من المحيط الى الخليج يفعلون مثلما نفعل، وبإمكاني ان اقول الان، وقد مضت كل هذه السنوات، ان جمال عبد الناصر قد يكون الشخص الوحيد، إلى جانب ام كلثوم، الذي تمكن من ان يجمع العرب/ عربنا، على حلم واحد وامل واحد.
اما بالنسبة لعائلتنا الصغيرة، فقد عاشت حلمها هذا، فلم تُعلّق على جدار بيتنا سوى صورتين، صورة ابي وصورة جمال عبد الناصر، وكانت الوالدة من اكثر ابناء العائلة احتفالا به وبذكراه العطرة، فظلت تردد اسمه، ابو خالد، الى ان ولد اخي الاصغر موفق/ توفيق، فاطلقت عليه وهو لما يزل في اللفة، اسم ابو خالد، ورافقه هذا الاسم بعد ان ولد خالد، منذ تلك الايام حتى هذه، وعليه كنت كلما رأيت اسم جمال عبد الناصر على كتاب او في صحيفة ومجلة، ابادر للقراءة مدفوعا بحب استطلاع متأصل في الماضي الشخصي والعائلي لي. من هذا المنطلق قرأت رواية عبد الناصر “في سبيل الحرية” التي كتبها عن معركة رشيد، ابان دراسته الثانوية، ولم يكملها، كما قرات كتابه “فلسفة الثورة”، ناهيك عن انني كنت مستمعًا مواظبًا لخطاباته العربية النارية الحافلة بالحلم والثورة. كما قرأت معظم ما وصل الى يدي من كتب وضعها مؤلفوها عنه وعن رؤاه العربية الاصيلة.. بل عن شخصيته وعما اتصفت به من كاريزما/ جاذبية، شهد له بها الكثيرون من القادة والصحفيين الذين جالسوه وتعرفوا اليه عن قرب. وأذكر من هذه الكتب كتابا رائعا للسوفييتي اجارشييف، واخر للكاتب فتحي رضوان، الكتابان حملا اسمه، علما ان ما كتب عنه كثير ويكاد يشكل مكتبة كاملة. ومما يذكر في هذا السياق/ الادبي الفني، ان المطرب الاسطوري عبد الحليم حافظ، العندليب الاسمر، خصص له اكثر من اغنية اثلجت الصدر وافرحت القلب، منها “يا جمال يا حبيب الملايين”، ارجو ان اتمكن من الحاقها بهذه الكلمات.
فيما يتعلق بعلاقة عائلتنا المهجرة الصغيرة بجمال عبد الناصر، اتوقف فيما يلي عند موقفين هامين لا انساهما ما حييت، اولهما يوم اعلن جمال عبد الناصر استقالته بعد حرب النكسة، 67، في خطاب مؤثر، فذهلت العيون وبكت الافئدة، والآخر يوم جرى الاعلان عن وفاته المفاجئة من راديو “صوت العرب” في القاهرة، فيما يتعلق بالموقف الاول، اصابت ابناء عائلتي حالة من الذهول فبدوا بين المصدق والمكذب، كما قال المتنبي في موقف مشابه، ودخلوا في نفق معتم لم يخرجوا منه الى النور الا بعد ان خرجت الملايين تطالب الزعيم بالتراجع عن استقالته.. فتراجع. اما فيما يتعلق بخبر الوفاة، فقد كان بمثابة صاعقة ابكتنا جميعا، ورافقتنا سنوات طوالا، واعتقد ان اثارها ما زالت عالقة بنا حتى هذا اليوم.. والى اخر الايام.
Discussion about this post