آلام يوم الاحد
قصة: ناجي ظاهر
تحسّس وهو يقترب من البوابة الكبرى مفاتيحها في جيبه، ضرب يده براسه لقد نسي المفاتيح. هو يتذكر أنه وضعها قريبًا من المغسلة وانطلق في صباحه ذاك.. مليئًا بالأمل ومتوقعًا خيرًا. مدّ يده إلى اكرة خوخة البوابة فانفتحت البوابة. ابتسم. ربّما كنت نسيت اغلاقها الدنيا أمان في ناصرة ابن مريم. فتح البوّابة. دلف إلى الداخل. اقترب من باب المؤسسة الرئيسي لعلّه نسيه مفتوحًا، غير أنه فوجئ هذه المرة بانه مغلق، نظر إلى الباب بنوع من العتب الممزوج بالمحبّة. آه لو كنتَ مفتوحًا. منذ ثلاثة أشهر وهو يأتي إلى تلك العمارة، القائمة فيها مؤسسة المجلس الثقافية. يفتح البوّابة يتبعها بفتح الباب الرئيسي ويجلس هناك منفّذًا ما أناط به مديرها العامّ دائم الغياب. لقد اقترح عليه ذاك المدير أن يعمل مديرًا فنيًا لتلك المؤسسة. وقال له بتودّد غامض “هذه مؤسسة ثقافية ويجب أن يكون مديرها كاتبًا. لا يهم ما إذا كان من جماعة مجلسها أو من سواها”، يومها اتفق مع صديقه المدير العامّ على أن يعمل فترة من الزمن ريثما يرتّب له مُحدّثه الأمور مع إدارة المجلس ليكون موظفًا، بل مديرًا فنيًا لأكبر مؤسسة ثقافية في البلد. هكذا ابتدأ العمل تطوعيًا. ليمضي الشهر الأول وبعده الثاني وها هو الشهر الثالث قد انقضى وابتدأ الرابع. وهو لمّا يتعين. وبقي مجرد كاتب متواضع الحال يتردد يوميا على تلك البوابة الموصدة.
اجتاز البوابة.. اقتعد إحدى الدرجات السبع المفضية إلى باب مكاتب المؤسسة، الدرجة الأولى تحديدًا، وراح يفكّر فيما عساه يفعل؟.. يعود إلى البيت.. أم يتوجّه إلى مدير المؤسسة العامّ ليجلس إليه وليتبادل معه الحديث لعلّ قمحة التوظيف تظهر و.. تملأ الحقل سنابل. لا، لا، هو سيجلس الآن ويفكّر.. لقد وصلت الأمور ذروتها وما عاد بالإمكان الانتظار أكثر فإما جنّة العمل الثقافي في بلدة هي أحوج ما تكون إليها وإما جحيم البطالة وانتظار ما لا يأتي في وقت يمضيه في القراءة والكتابة.. من ناحية وضغوطات الحياة من ناحية أخرى.
شعور قاتل بالفراغ انتابه. هو لم يعتد على مثل هكذا شعور، ليخرج.. ليمضي في شوارع بلدته القديمة.. العريقة، ليتنفس اجواءها الدافئة مثل اعماقه القصية البعيدة. نهض من درجته. توجّه إلى البّوابة الرئيسية. خطا نحوها. مدّ يده إلى راسه. تحسّس ما تبقى فيه من شعر. إنه يشعر بوجع راس يزحف في راسه ” انا لم اعتد على النسيان.. ربّما كان هذا الوجع معاقبة منّي لذاتي”، قال لنفسه دون أن يعير ذاك الوجع اهتمامًا خاصًا. واصل خطوه نحو البوابة. عندما مدّ يده إلى اكرتها الداخلية، كان وجع رأس قد أتي على جُماع راسه. الآن لا بّد له من أن يفعل شيئًا. ليعد إلى درجته الأولى ليجلس هناك وليغمض عينيه. ليرتح قليلًا.. هو يعرف مِن قراءاته الغزيرة أن إغماض العينين.. النوم ولو قليلًا يعتبر علاجًا ناجعًا لوجع الراس… عاد إلى درجته الأولى. اقتعدها. أغمض عينيه. بانتظار أن يخف الوجع أو يزول. لم يأتِ ما انتظره. تجربته هذه لم تفلح. ليحاول غيرها.. الماء .. نعم الماء هو العلاج الناجع لمثل هكذا وجع. ليشرب الماء ليعبّ منه ما احتاج إليه ذاك الوجع الرهيب. لكن مِن أين يحصل على الماء؟ وباب المؤسسة الرئيسي مغلق في وجهه؟.. ليتوجّه إلى أي مكان فيه ماء.. ها هو يمضي في شبه صحراء.. ليتوجه إلى أي مكان آخر يتوفر فيه الماء..
خرج من بوابة المؤسسة الرئيسية الخارجية. اغلقها وراءه. ومضى في شوارع وازقة بلدته القديمة. الناصرة لم تعد الناصرة. لقد جفّ فيها كلّ شيء.. لاحت في خياله صورة العين.. خطر له أن يتوجّه إليها.. غير أن معلومة فظة رسخت في أعماق ذاكرته.. صدته عن التوجّه اليها.. لقد جفت مياهُك يا عين. قال وهو يمضي في أحد الازقة. واضعًا يده على رأسه في محاولة لتخفيف ذاك الوجع اللعين. وتصوّر نفسه يطرق بوابة أحد البيوت العتيقة.. فتفتح له الباب صاحبته المُسنّة مقلّعة الاسنان. وتغلق الباب تقية وخشية. هو إذن لن يجد مبتغاه من الماء. أما الوجع فإنه سيأتي على قلبه وروحه.. في بلدة انكرته كما أنكر عظيمها ذاك اليهودي الخائن. وجع رأسه يزداد. آه لو يحصل على حبّة دواء.. اكامول.. يهزم بها ذاك الألم الفظيع. ما إن خطرت له تلك الفكرة حتى توجّه إلى أقرب صيدلية. الطريق إليها كان طويلًا، غير أنه مشى حتى وصلها. فوجئ ببابها مغلقًا. اليوم الاحد. ضرب جبينه بيده. كان عليك أن تتذكّر هذا.
ها هو يمضي في شوارع وأزقة وساحات الفها كما يألف الطير المقرور عشّه الدافئ. ماذا تراه يفعل في هذا اليوم الغاصّ بالأوجاع والآلام. ومِن أين أتاه هذا الوجع. هو اعتاد.. في الواقع.. على آلام خفيفة ومحمولة أما الآن فقد بلغ وجع رأسه ذروة غير مسبوقة. فما هو السبب يا ترى؟.. أيكون لأن انتظاره التعيين.. هو الكاتب الكبير بينه وبين نفسه و.. بعض من أصدقائه؟.. الانسان العادي في نظر الكثيرين.. ربّما.. ربّما.. طيّب إذا كان محرّك هذا الوجع.. هذا السبب أو ذاك.. فإن مِن واجبه نحو وجعه أن يفكّك أسبابه واحدًا واحدًا. اللعنة على هذا الوجع. قال وهو يمضي باتجاه بيت مدير المؤسسة العامّ في أعماق البلدة القديمة. الآن بعد مُضيّ ثلاثة شهور على ذاك الوعد الخالد بأن يتولّى منصب مدير تلك المؤسسة بصورة رسمية.. بات مِن حقّه أن يعرف.. ومَن يعلم فقد يولّي وجع رأسه ذاك إلى لا رجعة.. بل قد يجعص على كرسي الإدارة لينفّذ كلّ ما أراده وتمناه لبلدته المحبوبة الفظة.. لا سيّما في أيامها المشؤومة..
انطلق الكاتب الحالم باتجاه بيت المدير العام للمؤسسة.. زحف زحفًا.. مشى مشيًا .. ركض ركضًا.. نسي ما أراده مِن علاج.. النوم، الماء والدواء.. ولم يتبق في باله سوى اثنين.. المدير والمجلس العامّ.. هذا ما حصل له حتى الآن.. أما البقيّة فأعتقد أنكم توقعتموها.. أو تكهنتم بها.. على الأقل.. فقد وجد الأبواب كلّها موصدةً في وجهه الآمل.
Discussion about this post