“صوت في الظلام”
بقلم ربيعة بوزناد
كان الليل حالكًا، والظلمة تطغى على الزنزانة الصغيرة حيث جلس “يوسف” على أرضية باردة، مسنودًا إلى الحائط الذي امتص كل قوته. كانت القضبان أمامه مثل ظلال سوداء تعرقل حريته، لكنها لم تكن قادرة على تقييد روحه. في كل ليلة، كان الظلام يحاول التهام بقايا الأمل في قلبه، لكنه كان يقاوم، لأنه يعلم أن الحرية ليست مكانًا جسديًا بقدر ما هي حالة ذهنية.
أصوات الخطوات الثقيلة كانت تتردد في الممر الطويل خارج زنزانته. خطوات السجان “دانيال”، الذي كان يمر كل ليلة لينظر في عيون السجناء، وكأن انتصاره يكمن في رؤية انكسارهم داخل ظلام الزنازين. لكن “يوسف” كان مختلفًا. في كل مرة اقترب دانيال من زنزانته، لم يجد الهزيمة في عينيه، بل وجد صمودًا يثير الريبة.
في تلك الليلة، وقف دانيال أمام باب زنزانة يوسف. صوت المفاتيح التي يديرها في يده كان يملأ المكان مثل طقس مهيب. فتح الباب ببطء ودخل. كان يحمل في وجهه نفس التعابير التي اعتاد عليها يوسف، تعابير من يتوقع رؤية شخص محطم. لكن هذه المرة، جلس دانيال على الكرسي المقابل ليوسف، ولم ينبس ببنت شفة.
“لماذا لا تنكسر؟” سأل دانيال فجأة، وكأن سؤاله حمل ثقل سنوات من التساؤل الصامت.
رفع يوسف عينيه ببطء ونظر إلى السجان، عيناه تعكسان إرادة لا تُقهر. “لأنني لست هنا، خلف هذه القضبان. جسدي ربما هنا، لكن روحي… روحي حرة.”
ابتسم دانيال بسخرية، لكنه شعر بشيء غريب في داخله، شيء لم يعتد عليه. كان يرى السجناء ينكسرون يومًا بعد يوم، لكن هذا الرجل… لم يكن مثلهم. حاول دانيال لسنوات أن يفهم هذا الصمود، لكنه فشل.
“أنا أسير حياتي،” تابع يوسف بصوت هادئ. “وأنت، أنت أسير خوفك. كلما نظرت في عينيك، أرى الجلاد الذي تخشاه أكثر مما أخشاه أنا.”
هز دانيال رأسه، غير قادر على إخفاء ارتباكه. كان يعلم أن يوسف على حق. طوال حياته، عاش في ظل الخوف، يحكم بالسوط لأنه هو نفسه كان ضحية خوف أكبر. لكنه لم يعترف بذلك أبدًا.
مرت لحظات من الصمت، وكانت تلك اللحظات كافية لتغيير شيء في داخله. غادر دانيال الزنزانة دون أن ينطق بكلمة أخرى. لم يكن يعلم ماذا يفعل، لكن كان هناك شعور جديد يزحف داخله، شعور بالهزيمة، ليس من يوسف، ولكن من نفسه.
في الليالي التالية، لم تعد خطوات دانيال تحمل ذات الثقة القديمة. كان يمر كل ليلة، لكنه لم يقترب من زنزانة يوسف مرة أخرى. لم يكن السجان وحده من تغير، بل حتى السجناء في الزنازين المجاورة بدأوا يشعرون بتغير الجو. كانت همسات يوسف عن الحرية والصمود تنتقل من زنزانة إلى أخرى، تنتشر مثل نار في هشيم الروح المقهورة.
في صباح يومٍ مشرق، وجد الحراس الزنزانة فارغة. لا أثر ليوسف سوى رسالة صغيرة ملقاة على الأرضية الباردة. كانت الرسالة تحمل جملة واحدة:
“الجسد قد يبقى خلف القضبان، لكن الروح تعرف طريقها إلى السماء.”
بقلم ربيعة بوزناد
Discussion about this post