عندما وطئت قدماي أرض الأندلس، شعرت أنني أعود إلى زمن آخر، زمن كانت فيه الحضارة الإسلامية في أوج ازدهارها. كانت رحلتي إلى مدينة الزهراء واحدة من تلك اللحظات التي تبقى محفورة في الذاكرة، حيث تلتقي الروح بالزمن، ويُبعث الماضي من جديد في كل حجر وكل زاوية.
بينما كنت أتجول بين أطلال المدينة، استوقفتني جدرانها الحجرية التي ما زالت تحتفظ ببعض بريقها، على الرغم من مرور الزمن. كانت الجدران مطلية بلمسات من الطوب الأحمر، يتخللها نقوش هندسية وزخارف بديعة تروي قصصاً عن فن العمارة الإسلامي في ذروته. هناك، في الزوايا المخفية، تتسلل أشعة الشمس الدافئة، تنعكس على الحجارة القديمة فتخلق ضوءاً ساحراً يكاد ينطق بأسرار المكان.
تحت سماءٍ صافية، تمددت حدائق الزهراء التي كانت يوماً ما تزهو بزهورٍ من كل لونٍ وصنف. شجيرات الرمان والياسمين، التي كانت تملأ الأرجاء بعبقها، ما زالت جذورها متشبثة بالأرض، وكأنها ترفض الاستسلام للزمن. كان الهواء يحمل بقايا رائحة العطر، يمتزج بصوت المياه التي كانت تنساب في السواقي الضيقة، تروي عطش الأرض وتُطرب السامعين.
في تلك اللحظة، لفتت انتباهي قطة صغيرة جاثمة على حائط قديم، عيناها تلمعان بفضول وهي تراقب المارين. تلك القطة، وكأنها حارسة الزمان، شاهدة على عصورٍ مرت وأجيالٍ عبرت، تحمل في نظرتها قصةً لا تُروى، تماماً كالحجارة التي تستند إليها. شعرت بأن هذا الكائن الصغير يربطني بالواقع الحاضر، ويُذكرني بأن الزمن مستمر رغم كل شيء.
عصافير صغيرة بدأت تحلق في السماء وتغرد لحناً أندلسياً شجياً. كانت الألحان تتراقص مع نسائم الرياح، وكأنها تردد صدى الأوتار التي عزفت منذ قرون في قاعات هذه المدينة.
يا زهراء، يا جوهرةً مُخبأة بين جبال قرطبة، كيف كان صوت الأذان يتردد في أرجائك، وكيف كانت مجالس العلم تعج بالعلماء والفلاسفة؟ كيف كانت حدائقك تتفتح بألوان الورد والياسمين، وكيف كانت المياه تترقرق في سواقيك، تعزف ألحاناً تروي عطش الروح؟
أنتِ لستِ مجرد مدينةٍ تاريخية، بل رمزٌ للأمل والإبداع، وشاهدةٌ على قدرة الإنسان على خلق الجمال حتى في أصعب الظروف. إن مرور الزمن لم يمحُ آثارك، بل زادها بريقاً وألقاً، وكأنك تقولين لنا: “لا تنسوا، أن هناك دائماً نورٌ في نهاية كل طريق، وجمالٌ ينتظر من يكتشفه.”
يا زهراء، يا مدينة الأحلام، ستبقين دائماً في الذاكرة، تروين لنا حكايات المجد والعظمة، وتلهميننا بالسعي نحو الأفضل .
Discussion about this post