قصة قصيرة
بقلم د. هيفاء بيطار
كان العرسُ اسطورياً حقاً، فكرّتُ وأنا انّقل نظري بين باقات الزهور البديعة المنسّقة بذوق رفيع، وبين اللوحات الكبيرة الخلابة للقاعة الفسيحة في نادي الشرق ان الإبهار الحقيقي يأتي من الإتقان الدقيق، وبدت القاعة الغاصة بأكثر من ثلاثمئة مدعو أشبه بلوحة ضخمة، كل عناصرها متجانسة ومُبهرة .
لم استطع أن أحيد بنظري عن وجه العروسين، كان وجه صديقة الطفولة ايمان يشع بنورٍ غريب، وبدت في الفستان الأبيض، الذي أصرّت أن يكون بسيطاً رغم الثراء الفاحش لخطيبها – كامرأة من نور، تركت شعرها الأسود الطويل ينسدل حتى منتصف ظهرها ونثرت عليه وروداً بيضاء صغيرة، ووضعت إكليلاً من الزهور الطبيعية الصغيرة على رأسها، ومن وقت لآخر كانت تخصّني بنظرة على قصرها تفتح نفقاً بين روحي وروحها، نفق تتدفق فيه كل ذكريات طفولتنا وشبابنا .. حتى اللحظة التي تخرجنا فيها من كلية الطب.
لا انكر انني أحسستُ بشيء من غيرة من ايمان، حسدتها لأنها وفقت بعريس – لقطة- كما يُقال، ترك ممدوح الوطن وهو في السادسة عشرة، ودرس الطب في أميركا ثم تخصص في الجراحة التجميلية، وبرع في عمله، صعب أن تتجمع كل هذه الصفات في شاب، علم وجمال وأخلاق ومال. زجرتُ نفسي على مشاعر الغيرة، وعرفتُ ان سببها قلقي ألا اوفق بشريك مماثل.
انتهت الحفلة عند الفجر، وانتقل العروسان إلى الجناح الملكي في الشيراتون وسيسافران بعد يومين شهر عسل يتنقلان بين العواصم الأوروبية…
كانت ايمان تتوق للقاء ممدوح، فقد أحبته باندفاع وفرح كبيرين، ورغم لقاءاتهما القصيرة فقد شعرا ان احدهما خُلق للآخر، وتمت خطوبتهما في الصيف على ان يعود ممدوح الصيف التالي ليتزوجا، وتكون ايمان قد تخرجت من كلية الطب.
ما ان ضمتهما الغرفة الدافئة، حتى أحسّت ايمان ان لهاث شوقها صار مسموعاً وأربكتها الرطوبة في راحتيها، جفّ ريقها وشعرت بدوار خفيف …
كم تتمنى أن تذوب بين ذراعيه، أن تدخل بحالة غيبوبة جميلة كما كانت تحلم دوماً لم تفهم سبب حلمها الوحيد بأنها ستدخل غيبوبة ساحرة ما ان يجمعها مع ممدوح فراش واحد !
فيما تنزع اكليل الزهور عن رأسها تدفقت صور متلاحقة أمام ناظريها عن فتيات نزفن بشدة ليلة الدخلة، انقبض قلبها وهي تخشى ان تكون إحداهن، لكنها طردت هذه الصور المنغصّة، وهي تحس بلهفة عارمة لتتخلص من عذريتها التي بدت لها ثقيلة ومقيته على نحو كبير .
تخيلت انها بعد لحظات ستكون عارية بين ذراعيه، انكمشت متوترة من الفرح ودارت ارتباكها بضحكة، كانت متأملة كيف يفتح زجاجة الشمبانيا، ويرشف زبدها ثم يصب السائل البارد في كأسين، تشعر انها مفتتنة بكل حركة يقوم بها، لم تكن تحب الطعم الحامض للشمبانيا، لكنها شربتها بتلذذ وهي تتأمله بشغف ونفاذ صبر … لم تفهم لِمَ لا يأخذها بين ذراعيه حالاً، ولِمَ أشعل سيجاراً واخذ يتأملها بنظرة فيها شيء يثير قلقها، نظرة فيها جمود ليس له أي تفسير، كما لو انه يخفي أمرا يجد صعوبة في إطلاعها عليه .
اقتربت منه، وداعبت شعره الناعم، وقررت بلحظة أن تطوّح بكل الحياء الذي درّبوها عليه، وأقنعوها رغماً عنها انه يمّثل جوهر انوثتها، وان الرجل يفتتن بحياء الأنثى .
امسك يدها، عصرها بقوة وقبلها، فاخترقتها الشهوة كسهم من نار، همست له :
– ياه كم احبك، كم اشتاقك …
سحبها بقوة وأجلسها في حضنه، داعب عنقها وقبلها قبلات ناعمة متلاحقة، أحست ان الحياة سخية معها إلى درجة تحس معها بالحرج، وشعرت انها تدخل نفقاً وردياً دافئاً، كما حلمت دائماً.
ورغم نشوتها أحست انه مشغول بأمرها، انه لا يعطيها ذاته كلياً، سألته ما الذي يشغل بالك.
تفحصّها باهتمام وقال : أنتِ ذكية جداً …
ردت بغنج : حقاً !!
تعّمد ألا ينظر في عينيها، عكس وجهه توتراً عميقاً، اخذ نفساً زفره على دفعات وقال : أخشى أن أزعجك، لكن ما يقلقني أمر في غاية البساطة، وأخشى إن بحتُ به أن أضايقك.
قبلته من شفتيه مستمتعة بجرأتها وقالت بتأكيد : كل ما تطلبه يسعدني ولا يضايقني ابداً .
أبعدها عنه، ونظر إليها نظرة توسل، ثم قبل يديها بجنون وهو يقول لاهثاً :
– احقاً يا ايمان، هل ستتفهمين طلبي ببساطة ؟
– بالطبع، لكن ما الأمر ؟
أبعدها عنه، وقف، نزع ربطة عنقه من الحرير الفضي، وألقى جانباً الجاكيت السوداء، تأملتْ قامته المنتصبة الرشيقة بافتتان، أحست بتوق لتعري هذا الجذع المشدود وتلتحم به، سرت في جسدها رعشة وهي تتخيل ان جلدها سوف يلتحم بجلده بعد لحظات … فكرّت ان شهوتها ناضجة لدرجة تحس بثقلها كما لو ان وزنها قد ازداد .
فوجئت انه فتح حقيبته السامسونايت واخرج منها مصباحاً كهربائياً يعمل بالبطارية، ضحكت وهي تنزع حذائها نافذة الصبر كما لو انها تحفزه ليتقرب منها لم ينتبه للهفتها، قال وهو يحدق بها بنظرة مصممة باردة :
– أرجوكِ اسمحي لي أن افحص بكارتك، أريد أن أتأكد انك لم تقومي بعملية ترقيع البكارة، المنتشرة بكثافة هذه الأيام .
للوهلة الأولى شكّت بما سمعتْ، بل أحست انها بالتأكيد تعاني من ارتباك كبير بسبب التعب والتوتر، لم تصدق طلبه، لكن منظر المصباح الكهربائي في يده، والنظرة الغريبة في عينيه ثبتاها في الحقيقة .
انه يرغب فعلاً في فحص بكارتها، ويريد التأكد انها بكارة سليمة وغير مغشوشة !
بذلت جهوداً جبارة كي لا تنهار من الصدمة … وتعلق نظرها بالمصباح الكهربائي الذي أحسته مصوباً نحوها كخنجر … لم تعرف كيف ستتصرف ، كانت مرتبكة بشوقها الكبير للالتحام به … شعرتْ ان أبخرة داكنة تغشو دماغها، وتشّله عن التفكير، لم تستطع التفوه بكلمة، وصار الصمت بينهما غير محتمل ويجب خرقه بأية كلمة، قال لها : أرجوك، الأمر بسيط، لقد رأيت مئات الفتيات يجرين هذه العملية ويخدعن زوج المستقبل وأنا لااريد أن اخدع … انا احتقر هذه العملية فهي تدل على النفاق والكذب وانعدام الأخلاق … نظر إليها بعتب ثم تابع كلامه : أرجوك لا تنظرين إليّ بهذه الطريقة …
سألته : كيف انظر إليك .
ردّ : كالمفجوعة .
هزّت رأسها موافقة، انها فعلاً تشعر بالفجيعة، كانت مصدومة، لكنها أحست بنغمة الانكسار والرجاء في صوته، ماذا لو ألقى نظرة على بكارتها، إنها عذراء غير مغشوشة، يمكنها ان تحرجه وتخجله، وسيكون ممتناً لها إلى الأبد !؟
انه طبيب ويعرف البكارة المغشوشة والمُخاطة من البكارة الأصلية ، لكن شيء غامض في روحها جعلها تستميت لمنعه من تحقيق ما يريد، أي مارد تمطى في روحها، أحست بصلابة في كتفيها، فقامت من مكانها، وفتحت البراد ، شربت ماءً بارداً، قالت له دون ان تلتفت إليه : أنتَ لا تثق بي أليس كذلك ؟
قال : بل أثق بك كل الثقة، واحبك بجنون، وأنت تعرفين ذلك، تعرفين انه لم يمر يوم إلا واتصلت بك حين كنتُ في أميركا، أيوجد حب أكير من ذلك ؟
– ولِمَ ترغب بفحصي اذاً اذا كنت …. لم تستطع أن تكمل عبارتها إذ أحست بحلقة حديد تقبض على حنجرتها تكاد تهرسها.
– ايمان، خذي الأمر ببساطة، قلتُ لك انه مجرد فحص بسيط، مجرد.
قاطعته بحنق : قالت وقد بدأت تشحب وتحس بقشعريرة باردة تخضّ جسدها : لا الأمر ليس بسيطاً، الآن شكك قد تفجّر، شكٌ طال كبته أليس كذلك ؟
– ياه ياايمان، لا تعقدي الأمور، تنتظرنا حياة رائعة، فدعيني القي مجرد نظرة على بكارتك …
أحست بإثارة هائلة من الاستفزاز، التفتت إليه وحدقت فيه بحقد، قالت مهددة: وان لم اسمح …
كبتَ غضبه : لِمَ إصرارك على الرفض، لكأنكِ … لم يكمل عبارته فأكملتها نيابة عنه : لكأني غير عذراء … وأجريت عملية الترقيع !
– لم اقل هذا، لكن يدهشني إصرارك على الرفض !
فكرت انها لو سمحت له بفحصها فستنتقل من امرأة ذات كرامة إلى امرأة مسحوقة ومهانة إلى الأبد …
حلّ بينهما صمتٌ من رصاص، كان كل منهما غارقٌ في اتون انفعالاته الداخلية جلست على الكرسي، تحدق في التطريز الجميل في قماش فستانها، كانت الأشكال دائرية مختلفة المساحة، تحولت الدوائر إلى وجوه تعرفها وتحبها وتسجنها في الوقت ذاته، ارتسمت وجوه امها واختها وخالتها، والمعارف، والأقرباء … حدقوا فيها بعيون قاسية غاضبة، وصرخوا معاً : اسمحي له بفحص بكارتك يا عنيدة، مجرد نظرة لا تستغرق جزءاً من ثانية وبعدها ستنفتح إمامكما أبواب السعادة الأبدية .
– لا لن اسمح له، فكرامتي واحترامي لذاتي فوق أي اعتبار … فانا لستُ مجرد غشاء، ولا استمد قيمتي منه .
– ما هذا الكلام السخيف، إياك والتفريط بهذا الزوج اللقطة، احمدي ربك ان حظك ممتاز، مليون فتاة تحلم بزوج مثله …
ردت بسخرية : زوج يحمل مصباحاً كهربائياً ليلة الدخلة …
صرخوا وقد نفذ صبرهم : اسمحي له يابلهاء، فأنت عذراء، ستملكينه إلى الأبد وسيكون كالخاتم في اصبعك …
– لااريد أن املك احداً، ولااريد لزوجي ان يكون كالخاتم في اصبعي، أريد حباً واحتراماً و …
– اخرسي، اخرسي، لا تعقدي الأمر، هيا اسمحي له أن يفحصك …
دخلت الحمام، نزعت الثوب المرتشح بالوجوه البغيضة، لبست بنطال الجينز وقميصاً محتشماً، أحست انه غريب، لا تريده ان يرى جسدها.
حاول ان يخفف من توترهما، اقترب منها، فانتفضت، كان لا يزال ممسكاً بالمصباح الكهربائي، ورجاها من جديد أن تسمح له بفحص بكارتها، فانتفضت وسالته بتصميم : لنفرض انك وجدت بكارتي ُمخاطة، ماذا تفعل ؟
– مار أيك ! ماذا يُفترض بي أن افعل ؟ ما رأيك بامرأة تبدأ حياتها بالخداع والغش هل تستحق أن أعيش معها .
– ستطلقني اذاً .
– بلا ذرة ندم .
– لكن الفتيات يقمن بهذه العملية لإرضاء الرجل …
– أي غش هذا، أي عمل حقير …
– لماذا، يتحملن الألم والذل، لأنهن عارفات عفن الأفكار والأخلاق خلف كل شيء
أدهشها بانفجار ثورة غضبه، افهم من كلامك انك عرفتِ غيري وخدعتني بترقيع بكارتك …
استفزته، بضحكة صفراوية قصيرة، غمرها قرف اخذ يغمر جسدها شيئاً فشيئاً كما لو انه يغرقها في بحيرة آسنة، مرّت حياتها أمامها كسراب امتد القرف حتى طفولتها وماضيها … جوهر تربيتها تقديس العذرية ! مجتمع يختزلها بغشاء تافه …
قال نافذ الصبر : دعي هذه الليلة تمر على الخير …
ردت ساخرة : لقد مرّ الليل كما ترى، وطلع الصبح …
اخذ كل منهما ينظر إلى الآخر نظرة غريبة، وشفاههما ترتعش، كمن يريد أن يتكلم ثم يمتنع عن الكلام …
تساءلت إن كانت عيناها تفصحان عن كل الألم والاحتقار اللذين تحسهما …
بينما لم تكف نظرته رغم جنون غضبه عن التوسل إليها كي يفحص بكارتها
كانت تردد بينها وبين نفسها عبارة ليلة الدخلة، ومع كل مرة يتكثف قرفها، من كل شيء، كل شيء .
كانت تنقل نظرها بين وجهه ويده التي تحمل المصباح … كي تغيظه وتدفعه للحدود القصوى من التوتر، كي تتدفق سموم روحه وأفكاره أمامها … قال لها بغيظ
– اسمعي لآخر مرة سأطلب منك أن …
صرخت لن اسمح لك، أتفهم، وان أصررت سأملأ الدنيا صراخاً …
رمى المصباح من يده اقترب منها يحدق بوجهها بنظرات من نار قال :
– أنت طالق، يا حقيرة، لن اسمح لجنس حقير ان يخدعني …
عجباً، لم تتوقع أن شعور رائع بسعادة عظيمة تدفق من روحها كانفجار ينبوع في داخلها، ينبوع يتفجر تحت فجيعتها بالرجل الذي أحبته بجنون وطعنها بمصباح كهربائي …
د. هبفاء بيطار
كاتبة وطبيبة عيون سورية، اللاذقية
Discussion about this post