قصة قصيرة
بقلم ..الكاتب توفيق النهدي
البيانو لم يصدر اليوم لحنه المعتاد بقي مسجّى تحت الدرج دون عزف ودون حركة، الشمعدان العتيق يودع اخر شمعة لازلت تضيء رغم ذوبانها، ورغم ضوء الشمس.
وراء النوافذ الكبيرة يظهر الكلب روميو في حالة حيرة وكأنه يتسائل بعينيه التي تراقب باب الحديقة عن خطب ما، لم يتعود عليه.
الصباح يمزق أوصال الثواني والدقائق الرتيبة، الصمت كئيب إلا من الصوت الكنائسي لعقارب الساعة الحائطية التي اشتراها السيد الكولونال في إحدى جولاته البحرية لأوروبا، كانت ساعة قديمة لكنها تحاكي الزمن وتعلم تفاصيله.
تصعد السيدة سوزي الى غرفة النوم، الطبيب لازال بجانب السيد الكولونال منذ أن دعوه على عجل وهو صديق مقرب للعائلة ويقطن بنفس المنطقة.
– هل ثمة جديد يا دكتور؟
– النبض لازال منخفض سيدة سوزي.
تمسك يد زوجها برهة بعدها تجلس بجانب ابنتها ليليا على أريكة تقابل فرش زوجها لتهدأ من الحزن والبكاء الذي لا ينفك يزداد.
ليليا فتاة فاتنة جدا تحمل الجمال الاوروبي من امها والقوام الرشيق من ابيها الأسمر الشرقي، تحب اباها حد الجنون كانت دائما تنتظره بلهف وبكاء واضطراب حتى يعود من مهماته التي كانت كثيرة وطويلة المدة، زاولت دراستها الاكاديمية في باريس بتشجيع من والديها وايضا رغبة منها، ليليا رغم جمالها الأخاذ هي مكافحة كانت لا تطلب في سنوات دراستها مالا من أبيها ألا ما يرسله هو لها كانت تعمل خارج أوقات الدراسة لاقتناعها الشديد بممارسة دورها في التعويل على ذاتها، تقول دائما أنها لا تطلب من أمها الا الحنان ومن أبيها الا الأمان.
السيدة سوزي لا تأبه بكل هذه المسائل الشرقية، لازلت تحافظ على طباعها الأوروبية متمسكة بدينها وتقاليدها.
كانت قد تعرفت على الشاب الضابط الصغير في بيسترو في مدينة بوردو الفرنسية ، بدأت بعدها رحلة أنتهت إلى الزواج وانجاب ليليا، تحب السفر الى أهلها بفرنسا لم تكن تعتني جيدا باسرتها وببيتها لكن تحب ابنتها كثيرا، ومع الوقت تغير مزاجها مع زوجها ولم تعد تحبه مثل أول تعارف وتقارب، هي أمرأة جميلة بيضاء البشرة شعرها ذهبي مكتنزة الشفايف ذات غمازات في خدودها.
كان السيد الكولونال المتقاعد يلتهم الكتب في سهره.، مكانه الخاص والمميز على كرسيه الهزاز بجانب المدفئة شتاء، في الصيف يحبذ السهر تحت شجرة الزيزفون بالحديقة، لا يشرب ألا كأس شاي أنقليزي بالحليب في بداية الليل وينهي سهره بكأس ويسكي يوميا،
لا يغادر الى مخدعه ألا وقد قرأ كل الجرائد وبعض من إحدى الكتب باللغة العربية والفرنسية.
السيد الكولونال رجل صارم وفي داخله تختبأ طفولة وذكريات، طويل القامة أنيق جدا، سمرة خفيفة تعلو محياه، أنفه حاد كطباعه الجدية لكنه ليس صلبا ولا كان يوما قاسيا، تسريحة شعره الرمادي الى الوراء، لا يطول ولا يقصر، يحافظ على حلق الذقن كل صباح حتى بعد التقاعد.
في العادة وكل صباح، ينزل السيد الكولونال متكأ على عصاه الجميلة ذات اللون البني اللامع والتى أهداها له صديق عمره كمال هدية تقاعده، كان يمازحه أنذاك بكبر سنه وشيخوخته، لكن بعد فترة التجأ لها السيد الكولونال لأن استعمال الدرج يوميا ومن سنوات طويلة سبب له ازعاج في ركبتيه.
كان يأخذ ركنا في قاعة الجلوس ليداعب البيانو وهو يترشف قهوته التي يطهيها بيده يوميا، ولا يحب أن يغير من عاداته وحركاته خاصة الصباحية.
يشتم الكلب روميو رائحة القهوة ويسمع العزف المنفرد الذي تعود سماعه فيرقص بذيله أمام باب الحديقة في انتظار خروج السيد الكولونال ومصاحبته في جولته الشاطئية اليومية…..
يتبع…..
Discussion about this post