{ أينَ ترقُدُ حُرْمَة الأحياء }
كان عماد الصراف بإحدى الهيئات الحكومية شخصاً هادئاً أميناً ، يتقي الله في علاقاتهِ وأفعالهِ ، وفي عملهِ كان قدوة تُحْتَذَى . وبالرغم من مظهرهِ الغير مهندم وملابسهُ التي ضاقت زرعا بجسده تطلب منه الرحمةَ ، إلاٌَ أن الجميع يحترمونه لأمانتهِ ودماسة أخلاقه.
وكان عماد متزوج لديه أربعة أطفال يكدُ ويعاني ليوفر لهم فتات القوت وبعض من الملابس التي تكشف عن المعاناة كما تكشف عن بعض أجزاء من أجسادهم النحيلة.
يتعايشُ مع واقعه بالتقوى والتضرع إلى الله بأن تُشْرِق
عليهم شمس اليسر وتتوفر لهم حياة كريمة.
وذات يوم عاد من عملهِ مُنهَك القُوىَ مُكبلاً بالهمومِ فوجدَ زوجته تولولُ فإبنها لا يستطيع التكلم من إرتفاعِ درجة حرارته وكل ما إستطاعت القيام به عمل كمٌادات الماء الباردِ لجسد إبنها دون جدوى ، إنحنى عماد وجس إبنه بيدهِ وهمَّ مُهَروِلاً للخارجِ دون أن ينطق بكلمةِ واحدة ، ذهب عماد لمقرِ عملهِ وأمام خزينة النقود جلس يهمسُ لنفسهِ بما توارد في ذهنه : كيف تمتدُ يدي لمال العهدة ؟ والجميع يعرفونني بالأمانة والشرف ؟؟
تذكر أن موعد صرف الحوافز إقترب ، وفتح الخزينة أخذ مبلغاً من المال ثم أغلق الخزينة ولسان حاله يقول عندما أصرف الحوافز أرد المبلغ للخزينة ، وعاد مُسرعاً لمنزله أخذ إبنه للطبيب وإشترى له العلاج وفي طريق العودة إشترى بعض من الطعام والفاكهة لأبنائه ، وعند وصوله لمنزله ناداه صاحب العقار مطالباً بالإيجار المتأخر فدفع له مبلغاً من المتأخرات ووعده بسداد الباقي قريباً عند صرف الحوافز .
تنفس الصعداء كأب سعى لشفاء إبنه ولإطمئنان الزوجة على فلذة كبدها وإطعام أبناءه
وذهب لفراش النوم متضرعاً إلى الله أن يُعَجِل بصرف الحوافز ليسدد المبلغ قبل أن يُكتَشف أمره .
في الصباح ذهب الأب لعملهِ جلس على مكتبه وشردَ ذهنه فيما فعله لأول مرة في حياته الوظيفية وإنحنى وطوق رأسه بكفيهِ ، لحيظات قليلة مرت وشعر عماد بخطوات تقتربُ من مكتبه فرفع رأسهُ وإذ بعينيه تجول بوجوه أشخاص جادة متجهمة ؟ إنها لجنة تفتيش تابعة للجهاز المركزي للمحاسبات ، حاول الوقوف فخانته قواه من هول المفاجأة تم جرد المبالغ بالخزينة وبإجراءات وتحقيقيات سريعة وجد نفسه داخل زنزانة السجن بتهمة الإختلاس ، حالة إنكسار مزقت ذاته ، لعن المرض وضيق ذات اليد ، وراح ضميره يبكته فذهب فكره إلى إفتراضات مغايرة لما حدث :
لو كنت تركت إبني للموت لعشت أنا وإخوته بكرامة مرفوعي الرأس لكنها لحظة عاطفة الأبوة الضعيفة أمام مسئولياتها ، ثم راح فكره لقرار ما بعد خروجه من السجن بأنه سوف يلقنُ أبناءَه درساً في الأمانةِ التي لاتعرف لحظة ضعف ، وظل يكررُ ذلك القرار ليلاً ونهاراً ، ولكن… كان يُؤرقهُ ويُبكيه إنقطاع أخبار زوجته وأولاده .
ولحسن السير والسلوك خرج عماد بعد قضاء نصف المدة ليبدأ بأولاده عهداً جديداً ، لكنه… وجد القدر وحشاً عملاقاً يُكَشِرُ عن أنيابه فلا زوجة ولا أولاد وقد طردهم مالك العقار لعدم سداد الإيجار ، وجاب الشوارع يسأل عنهم ، وكانت الصدمة أن إبنه الأكبر إنزلق مع أحد تجار المخدرات للعمل وإستغله في توزيع السموم على الشباب ، والصاعقة أن الإبن الثاني وقع ضحية لتلك السموم فأدمن وباع منقولات المنزل ، وفي غمرة الهلع تساءل في حزن ولهفة أين زوجتي والأطفال الصغار ؟؟
وراح نحيل البدن حزين يبحث عنهم في كل الأمكنة حتى أخبره شخص عاد من دفن قريبه بأن زوجته في المقابر .فهرول مُسرعاً إلى هناك فلم تجد الزوجة مكاناً تحمي فيه الصغار إلاَّ بجوار والديها المتوفين .وقف مذهولاً شارداً فلم ير زوجته رمقت مقلتاه مومياء هزيلة عيناها غائرتان مهلهلة الثياب ، ممزقة النفس تحتضن أطفالها وتهزي بكلمات غير مفهومة ، تأملها بحسرة وجالت عيناه في قبور الموتى ؛ ثم إنخرط في بكاء هيستيري وصياح جنوني ( أي قانون ذلك الذي حاكمني وسجنني؟ أليست مسئولية القانون حفظ آدمية أولادي ؟
وفي حالة هيستيرية راح الأب يصرخ/ إصحوا يا أموات القانون كان في غيبوبة صحي حاكمني ورجع للغيبوبة…. وراح ينبش القبور بأصابعه النحيلة إصحوا يا أموات.. وصياحه يتكرر إلى أن خرجت في يده جمجمة أمسكها بكلتا يديه وراح يجري وسط القبور يصرخ ويردد نفس العبارات يسقط على الأرض محتضناً للجمجمة بكفيه وينهض ودخل المدينة يصرخ بنفس الأسئلة : راح فين القانون ؟( القانون نام وترك تجار المخدرات يدمرون أولادي … القانون ترك أطفالي وزوجتي بلا مأوى بلا طعام ويحتضن الجمجمة بكفيه) والناس يضربون كفوفهم وهم يرونه بهذا الحال المذري ويأسفون عليه وقد كان خيرة الأمناء الأتقياء.
ولم يكرر المسكين عباراته كثيراً قاطعته الشرطة لتقبض عليه ( بالقانون ) والإتهام ( إنتهاك حُرْمَة الموتى )
لم يُصَب الأب بالجنون إنتابته حالة إنهيار عصبي تام إستفاق منها ليسأل ضابط الشرطة ( أين تَرقُدُ حُرْمَةُ الأحْياءْ؟ )
بقلم الكاتبة/ سوزان حبيب بطرس
Discussion about this post