استقبلتني عصر هذا اليوم بملامحها المتعبة, وعينيها الغائرتين, إلا أنّهما لم تتخليا عن عشقهما
لزرقة السّماء, نحول وجهها جعلت أرنبة أنفها تبدو كتلال جبل الأربعين.
إنّها أم فادي المحتفظة في ثنايا عمرها بثلاثين شتاء, ببردهم القارص. كل ذلك جعلها تشبه ابنة
الأربعين أو ما يزيد .
رمت لي بإشارات الدّخول, تبعتها لأطلال غرفةٍ عشّش اليتم والفقر بكلِّ أرجائها. على
خاصرتها الجنوبية نافذة ترتفع عن الأرض ما يقارب المتر . ومن ورائها تطالعك حديقة
صغيرة تصلح لبناء خمّ لدجاجتين وديك. تناثر في الغرفة فرش أسفنجية وبطانيات رماديّة
اللّون, وكلّها مزيّنة بخاتم الأمم المتحدة (un).
جلسنا متربعين متقابلين. عدّلت من غطاء رأسها الفضي عدّة مرات ثم قالت:
كان زوجي يبيع شراب العرق سوس في ساحة البازار, وأحوالنا مستورة بحمد الله,
في يومٍ رمضاني هبطت من السماء قذيفة خلطت دمه مع العرق سوس وأغمض عينيه للأبد
من بعدها صار وحيدنا فادي كلَّ شيءٍ في حياتي, كان النور الذي أرى به الحياة, وصبرنا على
قضاء الله وقدره .
_ كان الله في عونكم قلت لها مواسياً
_في حينا جار لقب نفسه بأبي الفاروق. كان يعرض أكياس
البطاطا ( الشيبس ) محتلاً الرّصيف وأمام دكّانه تدلّت لافتةٌ كتب عليها, سوبر ماركت الإيمان
كانت الأكياس تغري المارين بألوانها وبكمياتها الكبيرة . موجة من السعال تخفي بين طيّاتها
غصة بألفِ دمعة, انتابتها فجعلت عينيها تفيضان بالدمع.
كلُّ كلمة من كلماتها تعمّقُ جرح الألم فتدمي روحها وروح من يسمعها.
مسحت دموعها براحة كفها وأعقبت. ذاك النذل
_ تقصدين جاركم السمان الملقب ب ..
_ وبإشارة من إصبعها كانت تؤكد الاسم, نعم هو بذاته.
منذ شهرين قبض على ولدي مدّعياً أنّه سرق كيس من البطاطا و سلّمه لمن يدّعون بأنّهم حرّاس
الفضيلة و هم من الفضيلة و لا يعرفون إلا اسمها.
و بدورهم زجوا الصبي بالسحن بين القتلة والمجرمين, تصوّر صبي عمره ست سنوات يوضع
في السجن بين القتلة و المجرمين.
ذهبت لجارنا أتوسل إليه, و أستجديه كي يتنازل عن ادعائه , لكن لا جدوى, من المستحيل أن
تجني عسلاً من حنظل.
في كل مرة كنت ألتقيه كان يلقي علي مواعظه قائلاً:
لو أنك تزوجت برجل صالح- يقوم بتمسيد لحيته التي صارت نهايتها كذيول الفئران و الجرذان-
لحفظكِ, و أشرف على تربية ابنك وتجنبتم الوقوع بمثل هذه العواقب الوخيمة , ولكن أنت غبية
و لا ترين أمامك .
قلت له: سأعطيكَ ثمن الكيس أضعافاً مضاعفة, خذ ثمنه عشرة أضعاف بل مئة مرة و أكثر.
كان يقاطعني بيده المليئة بخواتم الفضة غامزاً:
نعم أنا أريد الأكثر و لكن بالحلال افهميها .
و أطلقتْ زفرةً ملتهبةً: في كلِّ مرة ذهبت إليه يزداد كرهي له.
_معك حق فهو من عمل على حبس ابنك بكل دمً بارد خسيس.
_كل أهل الحارة و حتى الكثيرين من أهل المدينة يعرفون أنّه لصّ .
سرق الأموال, و الحليّ الذّهبية لعمته, ثم رمى بالتهمة على ابن جيرانهم الذي كان يشرف عليها
و يقضي حاجاتها , يومها شهد و حلف على كتاب الله بأنه لم يرَ وجه ياسين في الظلام,
لكنّه تعرّف عليه من ثيابه , ضيّع مستقبل الشاب بتهمته له.
بعد فترة من الزمن ظهرت الأموال, اشترى الدكان, ملأه بالبضائع, اشترى أرض زيتون,
بعدها ذهب للحج ليغسل ذنوبه, و تلعثمت بالكلمات:
كان لا يملك ثمن سيجارة. أنت تعرف أنهم حوّلوا معمل السّجاد الموجود في الطّرف الغربيّ
للمدينة إلى سجن لتوقيف المجرمين و المارقين .
_ نعم أعرف ذلك .
_و في اليومين الماضيين زارت مدينتا الطائرات, أفرغت حمولتها على السجن.
هرعتُ إلى هناك كانت الأشلاء في كلِّ مكان زنازين مفتوحة الأبواب كأنها أفواه أشباحٍ ,
جدران مهدّمة, فتشت كلَّ الأمكنة سألت حتى الحجارة لكني لم أجد صغيري, طفت
المشافي كلها البعيد منها و القريب لكن كلّ محاولاتي فشلت.
بطرف كم كنزتها الصّوفية مسحت الدّمعة المستقرّة قي عينيها.
قالوا لي: ربما قضى وضاعت جثته بين الأشياء المبعثرة. بحالة من الشرود راحت تعبث بنقاط
الدمع المتساقطة على أرض الغرفة .
صوت فادي القادم من النّافذة صفعها وردّها إلى رشدها كأنّه دلوُ ماءٍ باردٍ صُبََ عليها.
شخصت بناظريها نحو النافذة وأطلقت تنهيدة يملأها الحزن .
_أعرف أنك لم تسمع شيئاً. صوته يلاحقني في كل سكنة من سكناتي .
_قلت لها بودٍ يسكن صوتي: لربما كان حقيقة و ليس خيالاً.
_نظرت إلي بدهشة احتلت ملامحها بعد أن رمقت النافذة بنظرات سريعة .
_سامحك الله. لأنك صحفي جئت لتسخر مني و تزيد من حزني .
_همست نحو النافذ: اظهر و بان عليك الأمان.
_أطلّ فادي من النافذة وصاح ماما أنا هنا .
_رمقتني بآلاف النظرات جمدت في مكانها للحظةٍ ثم رمت بنفسها .
جرّته إلى صدرها رشقته بآلاف القبل و راحت تشتمّ رائحته من رقبته و رأسه, بنظرات
المنكسر قالت:
شكراً لك رددت لي روحي .
لملمت أوراقي, وما تبقى من دموعي المنسابة على خدودي قلت:
اشبعي منه لأنني سأعود في القريب العاجل لآخذه إلى المدرسة…
تمت
بقلم
محمد علي اعفارة
سوريا ..
Discussion about this post