بقلم الأديب هاني الفرحاني
بقدر ما أوغلت
المدرسة النقدية الكلاسيكية في الاهتمام بالنص من خارجه أي توضيف السياقات الحافة به ورصد السيرة الذاتية لمؤلفه، كانت البنوية السيميائية موغلة في التركيز على النص ذاته معلنة رفع شأنه مقابل إلغاء تامّ لسلطة المؤلف بل موته تماما على حدّ تعبير ( رولون بارت). وإذا مثّل هذا الاتجاه في القراءة النقدية للأثر تحولا كبيرا فإنه قد أفرز منحى جديدا في مرحلة ما بعد الحداثة. إذ أعطت لعنصر جديد طالما اعتبر خارجا عن النص مكانة كبيرة. وهو الذي كان غريبا عنه، مجرد إناء تفرغ فيه الذات الكاتبة شحنتها الفنية والمعرفية. هذا العنصر الجديد الذي تمّ إعلاء شأنه باعتباره ذاتا فاعله هو المتلقي. إذ تم التأكيد على ربط الأنساق الثلاثية بالذات المتلقية للانتهاء بإنتاج للمعنى لأي أثر كان.ولأن المتلقي ليس واحدا فإن (هانس روبرت هاوس) قد قسّم الذات المتلقية إلى ثلاث :
– القارئ العادي : أي من له خبرة عادية في تناول النص.
– القارئ الناقد : أي من له تجربة من خلال قراءته لأجناس أدبية معيّنة كالمعجمية واللسانية والمنطقية…
– والكاتب الناقد : أي من يدرك الفرق بين اللغة الشعرية واللغة العقلية التي تقتضي خطابا إيديولوجيا أو سياسيا أو علميا.
ومن هذا المنطلق يكون جوهر العمل الفني يقوم على مدى ارتباطه بالمتلقي أي على أساس وظيفته التاريخية بالمفهوم الهيدوقاري.
كيف كان هذا المفهوم حاضرا في ذهن الكاتب فوزي الديماسي في روايته “هُبل” ؟
كيف كان نصه نصا مطارَدا لا يستقر في جندر واحد متقيد بالحدود الأحناسية؟
كيف كانت شخصياته تخرج منه لتعود إليه متأرجحة بين الواقع والخيال؟
وكيف كان التركيز على الذات والمجتمع في لوحات متفرقة لا يجمع بينها غير قدرة الراوي على تشريك القارئ في محاصرة الكلام وبناء المعنى؟
1) النص والمتلقي
إن جوهر النص في رواية ” هُبل” لفوزي الديماسي سردي موحد في تشكيل بنيته والنسق الخطي لأحداثه والجمع بين أنماط العوالم المشيدة فيه. إلا أن هذا الجوهر السردي لا يستعلن حدّ الانكشاف فإن بعد التلقي الجمالي l’horzon de la reception esthétique وبعد التأويل الاسترجاعي l’horizon d’interprétation rétrospective اللذان تركهما للذات القارئة يجعل من النص نصا غير متكامل ينتظر تدخلا خرجيا لاستكمال الكتابة وبناء المعنى
وقد تمكن فوزي الديماسي من بناء نص سردي شاعري متماسك لا ثغرة فيه إلا للقارئ حتىّ يعيد كتابته من جديد على حدّ تعبير (رولون بارت).
ولنا أن نرى ذلك في المقاطع التالية:
” ولّت لغتي وجهها شطر المعبد ومن ورائي اضطرابي يحث في طقوس الأسوار والنفس في قيعان جسدي كريشة في مهب الطريق تصارع بذور المستقر… مسكت بيميني موج البحر وبالأحرى أطلقت العنان للصهوة فصاحت هواتفي في وجهي أن ترجّلْ وسر نحو النار و الخيام والموائد المفخمة مع أحلام القبيلة. ولكن أغنية الريح كانت أشد وقعا مع كل الأصوات. ص 28
” وامرأة أنيقة من غابر الزمن موغلة في صحرائها وخيامها وأطلالها تدفع بالنفوس دفعا جميلا و………فقدت جناحيها في الحي في زمن امتلأ فيه الرحب عواء ونباحا ونعيقا باسم آلهة الشمس ضباب والنخل في هجير الصمت المخيم على الألباب يدق مسامير نعشه…” ص 36
وليس في النص ما يشد على قاعدة استدعاء القارئ لاستكمال الكتابة وبناء المعنى وهو ما يوحي لنا بوعي الروائي بضرورة وجوة هذه الحلقة في كتابة النصوص الأدبية المفعمة باطلاع كتابها وانفتاحهم على الجديد في الساحة الأدبية العربية منها والعالمية.
2) رواية ” هُبل” نص مطارَد مطارِد
ونحن نقرأ “هُبل” لفوزي الديماسي، بوسعنا أن نجزم بأن هذا النص رواية لما يتوفر فيه من سرد ووصف حوار وتسلسل في الأحداث…. إلا أننا في الحين نفسه نستطيع أن نعتبره لوحة شعرية بصوره ومجازاته وإيحاءاته واستعاراته ورموزه. إنه نص مطارِد مطارَد مبنى ومعنى…. فالكاتب قد عمد فيه إلى إدغام الجنادر حدّ الانصهار أو لعله نص مطارد إذ أن القصة بدأت بالسرد والوصف في تسلسل واضح لتنزع في حين إلى التخلي عن منطق السيرورة نثرا لتواصل شعرا قصائد مبوبة معنونة ليس فيها غير الضمان لتسلسل القصة وإيصالها إلى نهايتها.
فهذا التداخل الوظيفي الواعي هو إضافة من الروائي فوزي الديماسي للمدونة الروائية المعاصرة. وهذه المطاردة في الجندر تتبعها في التنزيل على واقعية النص من عدمها بإنكار أسماء للشخصيات التي اختارها الراوي. إذ بقدر ما كانت أحداث الرواية موغلة في الواقع التونسي، كانت قابلة لافتراضات عدة بأسلوبها الشاعري. وبقدر ما كانت راسخة في تعابير قرآنية قدم القرآن نفسه، كانت متحصنة بتعبير غاية في الجمالية التجديد.
فنحن نجد في نصه:
– ” موليا وجهه شطر عشيقته الجديدة في مدائن الشعر والعشق” ص 49
– ” وجبالها عهن منفوش” ص8
– ” قاب قوسين أو أدنى من صهيل العويل” ص17
كما نجد :
– ” غادر الناس حناجرهم وأياديهم الملوحة بعلامات النصر” ص 50
– ” وضاع النهد في زحمة المطالب وابتلع السراب قريحتها” ص 52
-” فنهض ومن بعده نهضت رفيقته في اللوحة ليستقبلا رياح اللقاح في معبد الريح” ص 53
علاوة على ذلك فإن المطاردة تمت داخل الجنس نفسه. إن المروحة بين الواقع والخيال، بين ما هو ممكن وما هو غير ممكن جعلت النص لا ينصاع إلى التصنيف في شكله الروائي. إذ أن اختلاط الأدوار وتكاملها بين شخصيات الرواية وشخصيات اللوحات الزيتية المعلقة تجعلك غير قادر على تصنيفها ضمن الرواية الخيالية le roman fantastique نظرا لما تحتوي عليه من جوانب واقعية في أحداثها فإننا نجد مثلا:
– ” إنها شخصية روائية، تعلق دمها، وتحاول تضميد جراحها، يا لهول ما رأى، لقد تركها نائمة بهدوء بين جنبات نصه قبل مغادرته لبيته…” ص15
كما نجد:
– ” دخل منزله منتشيا بعد لقاء وردي مع صديقته الشاعرة على شاطئ البحر” ص 26
إن هذين المقطعين يتناقضان مبنى ويتعانقان معنى لكنهما لا يتركان لك مجالا للتصنيف. النص واحد والبناء مبنيين. أما الجنس فإنه يذوب في أدبية الكتابة.
3) شخصيات الراوي، تخرج منه لتعود إليه
إن نص رواية “هُبل” لفوزي الديماسي يوزع بين ذوات مختلفة ومتناقضة أحيانا تخضع إلى لحظات اقتناص في أداء أدوار أرادها لها الراوي (الروائي) لضمان استمرارية الذات الساردة لإبلاغ صورة تكتمل بالقراءة. والشخوص على تعددها تخرج من الراوي لتعبر عما أريد لها من وظائف من أجل تكريس أو تغييب سلطة الواقع… فالراوي ما فتئ يتناسل حتى يخلق أنماطا وعوالم ممكنة تم تشييدها حسب استداءات مسبقة لشخوص واقعية وأخرى خيالية تم تواجدها حسبما وفره لها من فضاءات وسياقات لتنطلق في أداء وظائفها لتعود إليه متى أراد لها ذلك.
إذ نجد المقاطع التاليه:
– ” توجهت نحو اللوحة النائمة على صدر الجدار مرة أخرى وكأنها تبحث عن شيء فقدته. لقد غادر الطفل المكان وأقلع عن الصخرة واستحالت الأرض المنبسطة تحته عيونا تجري دما” ص 61
– ” امتدت السواعد نحو الأفق لتزف للدم زهرة الصبايا المتلحفاة حول نخيل الصباح” ص 62.
– ” الصحفية شخصية روائية على أجنحة الزغاريد ترفرف كفراشة الربيع” ص 67
فالروائي (الراوي) حسب تشخيصنا هو من يمسك بالخيط الناظم في تفعيل شخصياته الواقعية منها والخيالية ليضمن سيرورة سردية في شكل فني يخرج عن السائد.
4) التركيز على الذات والمجتمع
إن التركيز على الذات في علاقتها بمحيطها المجتمعي في رواية “هُبل” لفوزي الديماسي قد تسلل بشكل سلس رغم ما تحتوي عليه الرواية من شحنة إيديولوجية كبيرة وموقف سياسي صارم. فالراوي قد عبر عن نكسة سياسية كبيرة تمثلت في استنساخ الرجل البرنزي المتمدد الذي كان قد جرفه الدم وأزيل من الوجود.
– ” بينما هي على لوح الاضطراب إذ بجثة الرجل البرنزي تتمدد وتتعدد في فضاء الصفحات ويخرج منعها رجال كثيرون على شاكلته لينتشروا في الساحة. تقهقر جمهور الغاضبين قليلا وعينهم تتابع المشهد بحذر. تحلق رجال البرنز حول أبيهم المدد كل ينفخ فيه من روحه.” ص 10
إن تشريك الذات الراوية للذات المتلقية في قراءة الواقع وتشخيصه عبر لوحات متعددة قد عبر على قدرة الراوي على الاستخراج لمحاصرة الكلام وبناء المعنى.
فالذات الراوية بالنهاية هي الذات المتلقية بما أن القراءة التاريخانية مطروحة على المجتمع من أجل بناء واقع اجتماعي جديد.
وبعد تبيان كل هذه الجوانب لعل ما يعمق الخصوصية في رواية “هُبل” لفوزي الديماسي هو هذا التماسك المتين لبنية قصصية شيدت لنفسها عوالم ممكنة برموز وعلامات مستحدثة بعيدا عن النمطية وإعادة السائد.
Discussion about this post