لأول نظرة، يبدو من جبلة تونسية. ليس لأنه يحمل الوطن داخل شغاف حرفه، فقط، بل لأن الوطن يتسرب إلى نيران نصوصه، كي يضفي الماء على حرائق الدوال !
لا أدري: لماذا ألمح تونس في كل كلمة يخطها بياضه، وفي كل بياض تسطره عبارته ؟ ولا كيف يقودني إلى تونس في كل خطو أرومه باتجاه شاشته ؟
هل لأني أرى فيه
عشقي لهذا البلد المضيء ؟!
أم لأنه يرى في
بلد عشقه الباذخ ؟!
(2)
“من لهيب قلبي
تصاعد الدخان”.
من بعيد، كنت أتجسس على تحولات يده الكاتبة. في إيابي منه وذهابي إليه، كنت أضج به، كنت أملأ قوارير إعجاب، لا أتوقف عن استراق النظر، بل التحديق في خبئه، وبدون أن يفطن إلى حجم الوشاية التي تأتيني من حبره !
محمود الحرف هذا، تبدى لي، وأنا ألاحق فيوض الكلم فيه، قامة تخفي ظلها كي لا تشي بها الاستعارة. لذا، كنت مجبرا على تعاطيه من وراء ستار، حتى يبقى، إزاء تجسسي، كاتبا يمرح في خفاياي، ومبدعا ألوذ ببقاياه.
اخرج من صمتك،
تكلم…”.
هكذا خاطبني، وهكذا كتب لي، وهو يخفق في شسع شاشة الكتابة، غير دار أن شبح بورتري يخيم هناك، ودون أن أدري أن بصمته تتسرب إلى مخابىء بائي الفادحة.
(3)
“سأغزل من أحضانك
ثوبا أرتديه،
وسأشرب العشق من كفيك
حتى أرتوي
فهل أكتفي ؟”.
بين ميم وضاءة تتوكأ على حاء نشوانة، وباء تسير بمغايرتها
نحو اختلاف التوق في القاف، يأتينا بكامل حروف حضوره، ثملا بخمر المعاني، مكتنزا بشراب المجاز، تاركا وراءه فؤادي يهوي من علو هذيان دواخله !
وبدل أن تترنح
عبارته هو،
أصاب بفتنة الدوار أنا !
بينه وبيني: خط يهطل بشٱبيب جملة، وعبارة تتخلق داخل رحم سؤال. وحده النص، قليله قبل كثيره، من يجعله يدرك مسافة ولعي، ومن يحثني على فهم تخوم وعيه.
من هنا،
حين يتصبب هو كناية،
أرشح أنا بلاغة.
وبيننا تكبر اللغة كي تصغر.
(4)
“بعض المشاعر
تضيق بها الكلمات
فتعانق الصمت”.
أرَاه عَصِيَّ المفرد شِيمَتُه التعدد، لهوى الحبر نهيٌّ عليه وللغة أمرُ. بلى، هو بديع وعنده فتنة، ولكنَّ مثله يذاعُ لنتاج يراعه سرُّ. إذا الحبر أضواه بسط يدَ الكلم، تُضِيءُ العبارة المأنوسة بينَ جَوَانِحِ سطره، إذا هو أذْكَاها رهافة !
قل هي الكتابة،
إدمانها الذي تفشى فيه،
وولعه الذي وشى بها.
اسألوه: أبقي هو، قيد لحظة، دون أن يستعلن مجازا، ويثرى تشبيها، ويعتلي براق التورية ؟! وكيف لا يفعل وهو الذي ما ذاق، يوما، سوى خمرة انتشاء الفاصلة والنقطة ؟!
“خلف جدار منسي
امرأة هزها..
الشوق والحنين”.
(5)
“ركبت الشاعرة متن غيمة،
ممسكة بيد حبيبها،
ليسافرا، معا، إلى اللامتناهي”.
بأقل الكلام، وبأسخى المعاني، يقارب محمود البقلوطي نصا خاطب فيه إغواء التأويل. يباغت الدلالة أنى برزت، وبدون أي إبطاء من دواته العاشقة.
لا حشو في يده،
ولا إسهاب في رؤيته،
ولا إطناب يقترب
من عتبات صبوات تأويله !
لكأنه، هذا المضيء بالنص، وفي النص، يمارس الحمية على النقد، كي يقبض على لبابه، دون زبده ؟!
هذا ما يتراءى لي، وأنا في جبة تعاطيه، حيث ما قل يؤول إلى ما دل. حيث ما اختزل يسعى نحو ما تكثف. ثم.. يزهو اللطيف داخل بؤرة الرهيف.
(6)
محمود يضيء القصيدة
عبر فنائها السري،
ويجلس تأويله في بهوها،
ثم يقودنا إلى صالون السرائر فيها.
لذا، وأنا أكتبه، أتساءل منفرد القلق الشعري، وأجيب مأنوسا بتوتر النثر، ثم أطلق الجهر:
أتراه سيقرأ البورتري،
وهو يقتعد غرفة التأويل؟!
أم سيكتب تفسيره،
وهو يسير فوق بساط القراءة ؟!
وحده، هذا التونسي الجميل، يملك حق الإجابة، لأن يراعي ٱل نحو جريرة السؤال !
Discussion about this post