قراءة نقدية لنص العابرين على الجسر للكاتبة الهام عيسى بقلم الناقدة سعيدة بركاتي تونس
#القراءة
عن الحنين و الانتظار عموما قالوا انهما موت بطيء …
يقول المتنبي :
أُغالِبُ فيكَ الشَوقَ وَالشَوقُ أَغلَبُ
وَأَعجَبُ مِن ذا الهَجرِ وَالوَصلُ أَعجَبُ
ترى العنوان و كانه مفعولا به و ليس الفاعل ” العابرين و ليس العابرون ” ، ربما تعمدت الكاتبة ان ياتي العنوان بهذه الصيغة ، و حين نتقدم في القراءة سنكتشف معا السبب …
لوحة قصصية : النص سيكون سردي وصفي
الزمن : ليل بارد جدا ” غير الصقيع ”
المكان : تعددت الأمكنة في النص ، و أولها عتبته ” على الجسر ”
شعر ، ق ق ج او نصوص سردية كان ذكر الجسر مكثفا في كتابات الدكتورة إلهام.
و رمزيته هو الربط بين مكانين يفصلهما نهر او بحر ” ماء ” و جسر النص اتى مختلف هذه المرة
في مقطعه الأول كان ” شعور النص باردا في حاجة أكيد للدفء .
تقول د.إلهام :
ليلتها، لم يكن غيرُ الصقيع، لامستُ أصابعَ ساقيك كانتا باردتين..
وقرّتُ اناملي من فتحة قميصك.. سكنتَ كعاصفة، والتفت بك..
كما ذكرت أعلاه الزمن كان ليلا ، و ” ليلتها هي بداية سرد قصة او مواصلة لسردها ” و الليل في الأدب عامة و منذ القدم يرمز إلى
الوحشة والبؤس وموارد الهموم، فشبه الليل بموج البحر، فالبحر لمن لا يعرفه ليلا هو كذلك مخيف، وهنا صورة الليل كانت ممددة كطوله ، ” فلامست أصابعها ساقيه ” فكأن الصقيع و سواد الليل غطى المكان ، فعلا تشعر بهذه الوحشة و الخوف ، فالحركة بطيئة و حذرة ” لامست” و بدأت بالساقين ، و حين نلمس الساقين في لحظات تمر بنا لا لشيء إلا لنتأكد هل هناك مازالت حياة ؟ فبين البرودة و الدفء نقطة فارقة اسمها ” على قد الحياة ، و هناك نبض ” .
و كانتا باردتين ” لا حياة فيهما
و تواصل الكاتبة وصف الحركة التي انطلقت من الأسفل إلى الأعلى وصولا إلى ” فتحة القميص ” .
فالإنطلاق من الأسفل كمن يُحيي نبتة ذبُلت أوراقها و لكن مازالت جذورها حية بمجرد سقيها ستنبت و تحيا من جديد.
هذا المرور بحركة اللمس وصولا إلى فتحة القميص مكمن القلب و الوجدان ، و مكان النبض و الإحساس ، و التأكد مرة أخرى هل بُعثت الحياة من جديد .أيقظت الشاعرة هذه ” الجثة النائمة ” الباردة ، و البرودة هنا ماهي إلا برودة شعور و إحساس .
” سكنتَ كعاصفة، والتفت بك.. ”
و تتكرر أفعال الهدوء بين تسللتُ و سكنتَ/ فعل و ردة فعل ، و فعل التف و سرعة انجازه دليل على شدة الشوق و الحنين و عطش إلى دفء معنوي حتى و إن كان من ” ساقين باردتين ” صقع ليل .
“”وعندما تتالت رياحك بالعبور صوبي مالت أجنحة الشوق واتسعت دائرة الحنين وأشرقت شمسك أملا يضيء في نفسي شموع التفاؤل.. “”
و دبت الحياة ” عندما تتالت رياحك بالعبور صوبي ” ، و كأنك مع مشهد زورق غيَّرت مجرى اتجاهه الرياح حين هبت على أشرعته فعرف اتجاهه الصحيح ” و عندما ” هذا الظرف المركب الذي يدل على الحين ” الزمن ” فقد دل على تواصل الأفعال التي سبقته و كأنه النتيجة لها …
استجابة : ميول أجنحة / اتساع دائرة الحنين / اشراقة شمس الأمل / اضاءة شموع التفاؤل .
في ميول أجنحة الشوق ” عندما تتالت رياحك بالعبور صوبي ” ، استفاقة للحنين الذي أخفاه ” صقع الليل ” ، و كلما ازداد منسوب الدفء اتسعت دائرة الحنين ، فقد تحرك تقريبا كل شيء فيه ، فأطراف الأصابع تحتوي على حواف جلدية والعديد من النهايات العصبية التي تزيد من الحساسية ، وتمكنها من استكشاف البيئة بطرق مفصلة.
و تحتوي على موجات كهربائية يمكن ان تمررها إلى نفس جنسها ، خاصة اليد التي بها الدرجة القسوى من الحساسية بالجسم ، فيكفي ان تلمس الشيء دون ان تنظر إليه تستطيع ان تتعرف على جنسه .
بالعودة إلى الإستفاقة أشرقت شمس الأمل : النور و الدفء معا ، و أضاءت شموع التفاؤل : لحظة ميلاد جديدة ، فقد كان كل هذا لنفس الكاتبة و ذاتها ! فيحيلنا السؤال ، هل كان مع الكاتبة شخص آخر ام كانت تحاول ان تنهض و تستفيق من ” وضع أُرغمت أن تكون فيه !!!؟
و هل ” العابرين ” على الجسر كانوا شخوصا فعلا أم شخصا واحدا ام هي و أحاسيسها ؟
في حضورك يعود للألوان بريقها.. وللبرد حرارته.. والشعر بهاؤه..
هذا السطر نتاج الحضور : بعد الإنارة بالشمس و الإحتفال بضوء الشموع ، يأخذ المكان ألوانه و كانها الوان طيف بعد المطر ، تغيب عتمة الليل و طول زمنه ، و هي فعلا الولادة و انطلاق الأجنحة لتحلق مع الرياح اعلاه ، من أطراف كانت باردة ” الساقان ” إلى حارة ، و للشعر بهاؤه ، و يحلو الكلام و
القصائد تتراقص على نبض القلب تلتصق بك تشم رائحة عطرك..
تغازل السماوات وغيمات الأعالي
ينتابني الشوق إليك
مقطع و كأنه اكتشاف لسر الحياة ، احتفاءا رقصت القصائد على نبض القلب ، فالقلب يشدو و يعزف موسيقاه ، قصائد كانت همسا ” تلتصق بك و تشم رائحة عطرك ” ، قصائد الكاتبة ، التي لفها الحنين و لوعة الشوق ، قصائد جنحت إلى الأعلى ” إلى السماوات ” و ليست سماءا واحدة ” .غازلت غيمات عساها تمطر هي الأخرى حبا و عشقا ليرتوي كل شيء حولها (الكاتبة)
تدق ساعة الحنين..
كم هي موجعة تلك الطرقات الموحشة
خلف جدرانها اليائسة
تحتضن آهات الذكريات..
أسير بغاباتك..
فيستوطن ظلك بين ثناياها
كأن ما سبق كان حلما ، حلما جميلا بلقاء بعد غياب ، فيأتي هذا المقطع يدق ساعة الحنين ، او هي ساعة الفراق ، كان أنسا و تحرك في ما سبق من النص كل شيء انطلاقا من أرض إلى سماء ” من الأسفل إلى الأعلى ” .
لكن ترى أنها لحظات رجوع إلى الوراء ، ” ربما ” فالطرقات موحشة /جدرانها يائسة / و الأهم ” تحتضن آهات الذكريات.
قالوا عن الطريق :
” ليس من الصعب ان نمضي قدما وليس الاصعب هو اكمال الطريق ، الاصعب جداً هو ان نترك خلفنا ما لانستطيع مشاركته الطريق.”
و حين تقترن الوحشة بالطريق تأكد انها ستكون طويلة حتى و إن كانت المسافة قصيرة .
يقول فاروق جويدة : سألتُ الطريق : لماذا تعبت ؟
فقال بحزن : من السائرين
أنين الحيارى ..ضجيج السكارى
زحام الدموع على الراحلين
وبين الحنايا بقايا أمان
وأشلاءُ حب وعمرٌ حزين
بين الطرقات و الجدران حُفرت الذكريات ، و بعض الأماكن إن مررنا بها تراها تتحدث و تروي لك كل تفصيلة كنت تخفيها و ربما نسيتها .
فالأماكن لها روح و رمزيتها عميقة ، الطريق مثلا هو بداية و نهاية ، الجدار هو الحاجز و أحيانا كان مدونة و كان سجنا …
و في النص كانا حاضنة للذكريات .
تقول الكاتبة :
أسير بغاباتك..
فيستوطن ظلك بين ثناياها
أحاول ان اجعل من حروفك
نبضا في حضن الكلمات..
و يتكرر ذكر المكان و يأتي في صغة الجمع ” بغاباتك ”
الغابة يشبهونها بالرئة للتنفس ، و هي مجال يضيع فيه من لا يعرف مسالكها ، لكن في ثناياها استوطن ظله و كانها المتاهة و ظله الدليل ، فحروفه ” و لعلها كلماته و اسمه ” نبضا في حضن الكلمات .
” ولما أعود زاحفة، إلى تلال وحدتك.. وأضمُّ انفاسي حانية إلى رقبتك..
يزورني طيفك في هدوء الغسق
رتيبا، ساحرا كضجيج الساهرين ”
لما : حرف نفي يجزم المضارع، ويقلبه إلى ماضٍ ممتدٍّ حتّى وقت الحديث مع توقّع حدوثه في المستقبل القريب
و هنا اتى مقترنا بحرف عطف و هو يواصل ما سبق من افعال بين السير و الإستيطان و جعل …كانت العودة ” زاحفة ” و لا يزحف إلا من فقد أطرافه أو عجز فعلا عن السير ، او هي مجاز لحالة الإعياء التي عانتها الكاتبة من اول النص إلى حدود عودتها هذه ، فهي تستجدي النفس ” منك ” : وأضمُّ انفاسي حانية إلى رقبتك..
يزورني طيفك في هدوء الغسق
رتيبا، ساحرا كضجيج الساهرين ”
فلم يبق منه غير طيف زائر في هدوء الغسق ، و زمان الصمت و الليل يعود إليه النص ، بين متناقضين: هدوء رتيب / ساحر كضجيج الساهرين
صورة مع التعب و حالة الزحف هناك حيرة و اضطراب في نفسية الكاتبة لا تدري هل تكون مع الهدوء ساعة الغسق ام مع الليل و ضجيج الساهرين ؟؟؟
ولما أغفو وأفيق، تكون ثرثرات الليل المجنونة
غافية بعيونك لامعة على صدر قصائدي
أقوم حافية، لأطلّ من براح الشرفة، وأفتح عيني على غبش الصباح..
حالة تعيشها الكاتبة بين يقظة و غفوة ” و ليس نوما ” و من يغفو يكون في حالتين إما في حالة أرق و يبحث عن النوم ، أو يغفو حين تغلبه سنة النوم و لكن العقل يبقى يقظا فلا يتحقق النوم الكامل ، و من الزحف إلى حافية القدمين ، كم هي مُتعبة هذه الذات .
فأعاود القول
ان النص يشبه رسالة موجهة إلى أحدهم و ليس بالضرورة ان يكون حبيبا ، قد شبهته بالعصفور : و العصافير في طي جناحها رسائل و في شدوها عذب الكلام ،
تبدو لي عصفورا.. ينتشي بالورد وبالربيع..
يا لخير مطالعي.. أنت..
حلم أنت..
و حين تقرأ تشعر بأن روحا تخاطبها الكاتبة ، روحا صاعدة للسماء فهل هناك علاقة بالساقين الباردتين أول النص ؟
تقول : حلم انت ، لا يحتاج لشرح
يطلع كلما ناغ الطير : حلم العاشقين ، كلما تلاطف و غنت الطيور ، حالة زهو و انتشاء
أمطر في السماء السحاب : ارتواء الذات قبل الطين
فحزم هذه العناصر تجدها تتقاسم المكان و هو الفضاء ، و كأن الأرض ضاقت بهذا الحلم .
…………
حين تتنقل بين ثنايا النص ، تجدك تعيش يوما من الزمن انطلاقا من ليله مرورا بضوء الشمس و احتفالا بشموع أنارت العتمة الداخلية للكاتبة ، حتى ساعة الغسق إلى الرجوع إلى ليل ثان
تنتقل من مكان إلى مكان مع الحبيب و الكاتبة التي ترغب في الهروب به من هذه الأرض التي ضاقت بها إلى مكان اوسع و أكثر رحابة حتى تحلق مع الطيور و تشدو شدو العاشقين
رمزية المكان و التي كانت بين الطرقات : الخطوة و الجدران : ضيق المكان و هذا دليل على ان الأرض فعلا لم تعد تسع الكاتبة
الغابة : التيه و الطيف دليل
______________
يتضح جليا مما تقدم أن النص تأرجح بين مخاطبة المحبوب تارة و الذات تارة أخرى ، هو محاولة للرجوع إلى الحياة من جديد ، كان ايقاعة هادئا بما احتواه من أفعال هي الأخرى هادئة كما ذكرت أعلاه .
يبقى العنوان الذي تساءلنا عنه أول القراءة و لماذا اتى في صغة المفعول به .
النص كان سردي ، تحدثت فيه الكاتب عن الشوق و الحنين و الذكريات و عن الخطوة و الطرقات فالعنوان كان عتبة عمن مروا بهذه الحياة ، فالجسر هو جزء من حياة الكاتبة ، و لهذا يمكننا أن نقول : ” إلى العابرين على الجسر ” كرسالة لمن بقيت معهم ذكرياتنا .
أو عن العابرين على الجسر ، و هو سرد لمن يرى نفسه في هذا النص الرائع للدكتورة إلهام عيسى
السطر الأخير:
من قصيدة الجسر لمحمود درويش :
كانوا ثلاثة عائدين:
شيخ , وابنته، وجندي قديم
يقفون عند الجسر…
(كان الجسر نعساناً, وكان الليل قبَّعةً.
وبعد دقائق يصلون, هل في البيت ماء ؟
وتحسس المفتاح ثم تلا من القرآن آية… )
قال الشيخ منتعشاً: وكم من منزل في الأرض
يألفه الفتى
قالت: ولكن المنازل يا أبي أطلالُ !
فأجاب: تبنيها يدانِ…
قراءة متواضعة بقلمي البسيط سعيدة بركاتي ✍️/تونس
Discussion about this post