بقلم أصالة لمع
في لحظة غير متوقعة، تدق رأسَكَ صورةٌ قديمة، ثم ينهال معها عليك كل الوقت، مشروخاً، متصدّعاً، متجرداً من كل كثافته التي كانت تجعله يشلُّك، ويتركك عالقاً في لحظة فارغة تكاد لا تُحَسّ.
ربما ترجع الذكريات من صدعٍ في الوقت، أو في المكان، أو في الاثنين معاً.
أو ربما، ترجع في لحظةٍ من الموت المؤقت، حالة من الرؤى الحادّة كمن يغيب في حلم…
رأيتُ تلك الصورة، باقة من الزهر الأصفر في مقبض باب أزرق.
رأيتها، ثم متّ. أو ربما لم أَمُت…
لكن كل هذا الوقت الذي يفصلني عن لحظة بعيدة، بدا الآن مثل أخاديد في واقع أخذ يذوب بهدوء.
الحياة الحقيقية هي تلك التي حدثت هناك، في الذاكرة. وكل ما يفعله الإنسان بعدها ليس أكثر من استرجاع الذكريات باستمرار، جرّها جراً إلى واقعه للتأكيد على عيشه بطريقة ما.
لأن الإنسان يفشل أحياناً بالحصول على أشياء عادية، مثل زهرة صفراء في مقبض باب أزرق، أو صوت مألوف لسيارة تتوقف على الأرض المبللة بالمطر تحت البيت.
الأمر يبدو أحياناً مثل نهر: يحتويه البحر الواسع ويلغي وجوده في الوقت نفسه.
هكذا ننساق إلى بحر الذكريات العظيم، وكلما تذكرنا، أكدنا وجودنا وحطمناه. حلقة هائلة لا تنتهي من التشديد والنفي. من الاعتراف والإنكار.
النسيان أنقى. الذاكرة تلوّث مياه الوقت المتدفقة.
إنما لا حياة في النسيان.
كلمة ميتة ترجع من شرخ في الوقت، وبالكاد تجرؤ الآن على أن تلامس شفاهك، تبدو أكثر حياةً من واقع لم يعد يمكن فيه للكلمات أن تقتلنا.
كنتُ صغيرة، كنتُ أرى أشياء لا يراها الجميع، أصغي إلى الليل، وأنتظر هبوط الندى على العشب في الصباح.
وكنتُ، حين نعود مع أهلي إلى البيت، وما إن أنزل من السيارة، أُعَلّقُ عينيّ بباب البيت، لأرى إن كان أحداً قد جاء إلينا في غيابنا، وترك في مقبض الباب، زهرة، أنا متأكدة الآن أنها كانت صفراء.
كان يفتنني الأمر: أن يأتي إليك أحدهم، فلا يجدك، ثم على الرغم من غيابك، يترك لك زهرة في بابٍ موصد في وجهه.
لم أكن أعرف في حينها أن أضع كلمة الشعر في مكانها الصحيح…
الآن، ألف عام مرّت، صرتُ أعرف أنها عادة شاعرية بالغة الرقة، ما زالت متوهجة في ذاكرتي دون أن أدري، وما زلتُ أجرّها إلى واقعي بإصرار.
الآن، ألف عام مرت، وما زلت أترك أزهاراً للناس في غيابهم… حتى حين تبدو الأبواب موصدة، حتى حين تداهم حلكة المساء أرصفة الذاكرة…
ألف عام مرت، وما زلت أحزن كلما رجعتُ إلى البيت، ولم أجد في الباب زهرة، كنتُ أريدها بشدة أن تكون… صفراء.
بقلم أصالة لمع
Discussion about this post