بطل ملحمة كوبري عباس.
د ماهر جبر
مازلت أنتصر لقضية أظنها فُرضت على عقلي الباطن، وملكت علي نفسي، وسيطرت على تفكيري، دون أن أدري مدى أهميتها لدى القارئ وهل تشغل تفكيره أم لا؟، ألا وهى البحث والنبش والتفتيش عن المهمشين والمنسيين بين سطور التاريخ، ودفات الكتب، ومذكرات زعماء الثورات ومعاصريها، واللذين قاموا ببطولات لا يصدقها عقل دون ذكر لهم أو معرفة من أحد، محاولين أن نَنفض عنهم ركام التاريخ، تراب النسيان، ليراهم ويلتقيهم من يعيشون الآن من خلال مقالي هذا، ويعرفوا عظمة تضحيات هؤلاء من أجلنا كي يزيحوا الظلام، ويصنعوا لنا فجراً منيراً ونهاراً مشرقاً، مترفعين عن أي مقابل لما قدموه.
أفعل ذلك معتنقاً لمبدأ أنه من أبسط حقوق هؤلاء علينا أن نذكرهم ونعطيهم حقهم بعد رحيلهم إلى دار الحق، إن لم يأخذوه وهم أحياء، لقد ماتوا وبليت أجسادهم وتركوا ذويهم وهم شباباً تفتح لهم الدنيا ذراعيها، وتناسوا طموحاتهم وآمالهم وحصروا كل ذلك فقط في هدف واحد، وهو تحرير وطنهم دون انتظار لمجرد ذكر لهم من قريب أو بعيد، لذا كان لزاماً علينا تسليط الضوء عليهم من قبيل عودة بعض حقهم، وإن كنا لا نستطيع ذلك.
في البداية فإن كوبري عباس تم إنشاؤه في عام ١٩٠٨ م، وكان الهدف من إنشائه أن يكون بمثابة جسر أو بوابة للعبور بين محافظتي القاهرة والجيزة عبر جزيرة منيل الروضة، وكان طول الكوبري حوالي ٥٣٥ متراً وعرضه يصل إلي ٢٠ متراً، وسمي بذلك نسبة إلى الخديوي عباس حلمي الثاني، أما سبب شهرة هذا الكوبري فترتبط بحادثة كوبري عباس التي وقعت أحداثها في يوم ٩ فبراير ١٩٤٦م، والذي اعتبر فيما بعد اليوم العالمي للطالب، وهي واقعة اختلف حولها المؤرخون، فإعتبرها بعضهم مذبحة ومجزرة بكل ما تحمل الكلمة من معنى، ذلك أن قوات البوليس قامت بعمل لم يتصوره عقل، حيث تركت الثوار حتى أصبحوا جميعهم على الكوبري ثم قامت بفتحه فغرق بعضهم في المياه، ومن نجى منهم تم القبض عليه، ومن الأمور الغريبة التي تدعو للدهشة أن مُصدر ذلك القرار أو لنقل المسئول عنه إن لم يصدره هو محمود فهمي النقراشي باشا رئيس الوزراء ووزير الداخلية في ذلك الوقت، فهل يُعقل أن هذا هو الشاب الوطني الذي خرج في مظاهرات كثيرة ضد الاحتلال الانجليزي وتعرض للإعتقال مرات عديدة؟، أم أن بريق المناصب والكراسي تُحيل الثوار الى طغاة؟، وإن كنت لا أظن أن النقراشي مُصدر القرار، الا أنه يتحمل مسئولية ما حدث في ذلك اليوم، وفرق كبير بين مُصدر القرار والمسئول عنه، فقد يصدره من هم دونه ومع ذلك يكون متحملاً للمسئولية، أما كونه مُصدر القرار هنا فتعني الخيانة في جانبه، وهو ما ننفيه عن شخص النقراشي باشا، وما لا يتفق مع تاريخه الوطني قبل ذلك، وان كانت هذه الحادثة أصبحت فيما بعد سبباً من الأسباب الرئيسية في إغتياله بعد ذلك بعامين في ١٩٤٨م، بجانب إتهام وتورط تنظيم الأخوان أيضاً في اغتياله، لأنه أصدر قرار بحل جماعة الأخوان المسلمين بعد قضية العربة الجيب كما عُرفت إعلامياً وعلى صفحات الجرائد آنذاك.
قلنا أن المؤرخين اختلفوا حول هذه الحادثة، بين من يرى أنها حادثة عادية وقعت مئات المرات بين المتظاهرين وقوات الأمن في ذلك الزمان، لكنها تم تهويلها واعطاؤها أكثر مما تستحق، وبين من يرى أنها تعد وصمة عار في تاريخ كل من ارتبط اسمه بها، على كل الأحوال أياً كانت الحقيقة وسواء أتفقنا مع هؤلاء أو هؤلاء، فهذه ليست المرة الأولى التي يرتبط فيها اسم الكوبري بحوادث هامة في تاريخ مصر الحديث، فقد اكتسب كوبري عباس شهرته أيضاً قبل ذلك بعشر سنوات في عام ١٩٣٥م حين اصطدمت قوات البوليس مع المتظاهرين فوق الكوبري، واستشهد واصيب الكثير من الطلاب في ذلك اليوم، فتعالوا بنا نعرف ما هي الحكاية، ومن هم أبطالها، بل ومن بطلها الأبرز؟.
نحن الآن في عام ١٩١٤ م، المكان مطوبس إحدى قرى(مديرية الغربية حينها) محافظة كفر الشيخ حالياً، حيث الناس بسطاء يبدأ يومهم مع شروق الشمس وينتهي مع غروبها، جميعهم لا عمل لهم إلا في الحقول التي لا يمتلكونها غالباً، ولد بطل حكايتنا محمد علي بلال في هذا العام ومصر تموج بالحركات الوطنية وزخم الثورة يسيطر على ريفها وقراها قبل مدنها، ففي القريب فقدت مصر زعيمها وباعث حركتها الوطنية مصطفى كامل، وقبل ذلك بسنوات قليلة ملحمة دنشواي وبطلها زهران ورفاقه، وهم من ذكرتهم في مقال سابق، واللذين تحدثت الدنيا ببطولاتهم وتغني بها الشعراء، ثم تلى ذلك بفترة قصيرة أيضاً وقوع اول حادث اغتيال سياسي في تاريخ مصر الحديث، وهو اغتيال إبراهيم الورداني لبطرس غالي باشا رئيس الوزراء في عام 1910م، الجو إذاً مُفعم بالمد الثوري، والبيئة خصبة ومُعدة لاحتضان الثوار وتربيتهم.
انتقل الطالب محمد بلال من قريته الى الاسكندرية حيث أكمل تعليمه الثانوي ثم التحق بكلية طب القصر العيني بالقاهرة، وكونه من قرية قريبة من ابيانه مسقط رأس الزعيم خالد الذكر سعد زغلول جعله هذا ينضم الى حزب الوفد منذ صغره، وذلك تحت زعامة اللجنة التنفيذية العليا للطلبة، ولجان منظمة الشباب الوفدي المعروفة بالقمصان الزرقاء، وكان خطيباً مفوهاً، لُقب بزعيم الطلبة، وأثناء تواجده بالكلية عام ١٩٣٥م إستصدر توفيق نسيم باشا رئيس الوزراء ووزير الداخلية آنذاك أمراً ملكياً بإيقاف العمل بدستوري ١٩٢٣، ١٩٣٠، وهما الدستوران اللذان وافق عليهما الشعب المصري بكل طوائفه، وقامت المظاهرات من أجل إقرارهما.
ثم كانت الطامة الكبرى، أو القشة التي قصمت ظهر البعير كما يقولون حين أعلن وزير خارجية بريطانيا بأن دستوري ١٩٣٠،١٩٢٣، غير صالحين للعمل بهما وأنهم ضد رغبة الشعب المصري، فخرجت جموع الجماهير من كل الطوائف والفئات تندد بالحكومة وتطالب بإسقاطها، وكان الدور الأهم والفاعل في هذه المظاهرات وكالعادة للطلبة اللذين خرجوا من كل الجامعات والمدارس واتجهوا ناحية كوبري عباس، وهنا وقع الصدام بينهم وبين قوات البوليس التي أطلقت عليهم وابل من الرصاص، فسقط عدد من الشهداء والمصابين منهم الطالب محمد عبد المجيد مرسي،
ومحمد عبد الحكم الجراحي، علي طه عفيفي، وقد استشهد الثلاثة في نهاية اليوم( أغلب الظن أن علي طه عفيفي هو من جاء ذكره كبطل لرائعة نجيب محفوظ، القاهرة 30، والذي جسد دوره الفنان الكبير عبد العزيز مكيوي)، حاول وزير الخارجية البريطاني تهدئة الوضع بالرجوع عن تصريحه، لكن فات الأوان وسبق السيف العزل.
قلنا بأن الصدام بين الطلبة وقوات البوليس أسفر عن شهداء ومصابين، وحملتهم سيارات الاسعاف الى المستشفيات، وهنا ظهر زعيم الطلبة محمد بلال الذي يعتبر المحرك الأول والأساسي للأحداث، حيث أسرع للإطمئنان على المصابين، فصُدم بوفاة محمد عبد الحكم الجراح، علي طه عفيفي، محمد عبد المجيد مرسي، فما أن علم المتظاهرون بذلك حتى اشتدت المظاهرات، وتم القبض على كثير من الطلاب منهم الطالب ابراهيم شكري رئيس حزب العمل فيما بعد، وقام محمد بلال بسرقة جثة علي طه واخفاؤها في مدرجات إحدى الكليات، فجُن جنون الحكومة وأخذت تبحث عنه في كل مكان وتم القبض على محمد بلال الذي اشترط لإرشادهم عن مكان الجثة أن تقام له جنازة يحضرها كل من يريد، ولم يرضخ لهم إلا بتعهد من مصطفى النحاس باشا، وتم له ما أراد وخرجت جنازة شعبية حضرها المصريون من كل مكان، كانوا أبطالا وفدائيين عظام، فالشهيد محمد عبد المجيد مرسى كان يحمل علم مصر فى هذه المظاهرات وعندما استشهد وقبل سقوط العلم على الأرض تلقفه الشهيد محمد عبد الحكم الجراحى وحمله، ولذلك أصبح الشعار الرئيسى لكل مظاهرات الطلبة والثوار فى الأربعينيات من القرن الماضى (عبد المجيد عاد من جديد، ورفعت العلم يا عبدالحكيم).
كما أن الجراحى كتب رسالة بدمه إلى رئيس الوزراء الإنجليزى نصها( بسم الله الرحمن الرحيم، ولا تحسبن اللذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون، الى رئيس وزراء انجلترا، أحد رجالكم الأغبياء رماني برصاصة وأنا الساعة أمشي رويداً الى الموت، ولكني سعيد أن أترك روحي تنتزع مني وأضحي بدمي، إن آلام الموت عذبة المذاق من أجل مصرنا نحن فتحيا مصر، مصر فوق الجميع، تحيا التضحية ويسقط الاستعمار، ثم ختم رسالته بتوقيعها بأنه أحد الشهداء المصريين محمد عبد الحكم الجراح، 16 نوفمبر 1935)، ونشرت رسالته جريدة اللطائف المصورة في عددها رقم 1086 الصادر يوم 7 ديسمبر 1935، بعنوان (الشهيد يكتب بدمه رسالة خالدة الى الانجليز ورئيس وزرائهم)، وعندما مات حمله زملاؤه إلى مدفنه وأُعلن الحداد العام فى كل مدارس القاهرة، وكانت ملحمة وطنية، وعاد العمل بالدستور بعد غياب مدة من الزمن تقدر بخمس سنوات، وانتصرت ارادة الأمة.
ومن الجدير بالذكر أنه وخلال عملية مسح قامت بها كلية الآثار جامعة القاهرة في مقابر القرافة الشمالية التى تقع شمال القلعة شرق صلاح سالم فيما بين طريق الأوتوستراد وطريق صلاح سالم، والمعروف في الجزء الشمالى منها باسم ترب الغفير، تم اكتشاف مدفن الشهيد الجراح والرسالة منقوشة بدمه على لوح رخامى لا يزال محفوظا بالمدفن، ويعد هذا أول دليل أثري تاريخي يُسجل عليه رسالة كتبها شهيد بدمه فى العالم.
فمن منا يعرف هذه الأسماء العظيمة، من يعرف محمد علي بلال، من يعرف محمد عبد المجيد مرسي، من يعرف محمد عبد الحكم الجراح؟ ، من يعرف علي طه عفيفي؟، لماذا يتم تجهيل هؤلاء الأبطال وصناع التاريخ، ولمصلحة من ذلك، لماذا لا يتم تدريس هذه الأسماء في كتب التاريخ كي نرسخ قيم الإنتماء والوفاء لهذا الوطن في نفوس وقلوب أبنائنا؟، لماذا لا يتم تكريم أبنائهم وأحفادهم، وتعريفهم للناس كنوع من رد الجميل لهؤلاء الأبطال، أم أننا نهيل التراب على كل ما هو غال ونفيس في تاريخ أمة عظيمة يُدرس تاريخها في كل جامعات العالم ومراكز أبحاثها، تحية لروح محمد علي بلال صاحب ملحمة كوبري عباس، ومشعل ومحرك أحداثها ورفاقه الأبطال الذين لا نعرف عنهم شيء
Discussion about this post