* عذراً منك سيدي….
من كنف الصحراء
من صحراء وأرض غير ذي زرع، سطع نور البداية، من واحات الحجاز السابحة في رمال متناثرة على جنبات البيت العتيق، عصفت الثورة، وكان عبق محمد، الإنسان، النبي، العبقري، محطم جبروت الوثنية، ومبلسماً جراحات التاريخ، مختصراً كل الرسالات السماوية بولادة النور، بسبطين إثنين: الأول: كان رمزاً لمحاكاة الواقع وعنيت به الإمام الحسن بن علي بن أبي طالب، والثاني: كان فدائياً ثورياً خطّ معالم الشهادة في كربلاء ، فكان الحسين بن علي رمزاً للكرامة والشهامة والفداء، وتاريخاً يجسد أحكام وتعاليم القرآن الكريم ومفاهيمه.
لم يكن الحسين إبناً للصحراء حتى يكتنفه الغموض، ويصبح مع مرور الوقت نسياً منسياً، بل كان صوت العدالة الإجتماعية والإخاء الإنساني الذي رفع صوته عالياً يوم كربلاء بوجه الحاكم الظالم الجائر مردداً قوله: “ألا ترون إلى الحق لا يعمل به وإلى الباطل لا يتناهى عنه فليرغب المؤمن بلقاء ربه”، فكان صوتاً لدعوة محمد بن عبدالله، بتحريره العقل الإنساني من نير التبعية والعبودية ليرتقي به إلى النقد وتقويم الإنحراف والإنحطاط حتى وإن استلزم الأمر تقديم النفس والزوج والإبن، فدين جده اقتضى شعلة ومنارة تحرك وجدان الأمة، فكانت الشهادة عبقاً يزدان به الزمان، طالما آمن بالإستقامة قولاً وعملاً قائلاً: ” إن لم يستقم دين محمد إلا بقتلي فيا سيوف خذيني”.
وكيف لا؟!.. فوالده الإمام علي بن أبي طالب، هو الضمير العملاق الذي لم يشهد التاريخ الإنساني بشرقه وغربه بقديمه وحديثه عظيماً مثله، بفكره وزهده وتواضعه وجهاده وإثاره.
صدقت يا أبا عبدالله، أيها الإمام الصابر المجاهد، يا من صبغت الحياة الدنيا شهادة الفجر بالعدل والحق، ويا من وقفت تلقي الحجج في اللحظات الأخيرة من الحياة على أمة لم تدرك وتعرف أنك تحركت من واقعك الديني ومسؤولياتك الشرعية في إقامة فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فكنت المعنى والأمل لمن يتطلع إلى قراءة الموقف والعزة من أجل النصر.
لم تطلب الدنيا بقلبك يا ابن رسول الله، ولم ترغب بها لذاتها لأنك نهلت من علم علي، وأدركت أنها أشبه بعفطة عنز.
انطلقت من مكة، يوم اعتمرت الأمة، وحججت إلى بيت الله الحرام أمام أعين الجميع، كحجة عليهم يوم القيامة، إذ كيف يخرج الحسين أمام الجموع ولا يجد من يناصره على إقامة فريضة الدين؟. وخرجت أمامهم بجمع غفير من فرسانهم، لكن سرعان ما انفضوا من حولك، ولم يبق بجانبك إلا الفئة المؤمنة المخلصة، فأولئك كانوا قد خرجوا يقودهم الطمع بولاية وإمارة ومناصب سياسية، لكنهم وهنوا وأدركوا أن عليهم بذل ما لاطاقة لهم به من بذل الدماء مصداقاً لقوله تعالى: وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم .
أنت يا سيدي رغم الظلم والحيف الذي لحق بك وبمن معك، كنت إماماً لدين الله على أمة ناكثة، فهانت عليك نفسك أمام نصرة دين محمد، لا تصرف طرفك لحظة عن الأطفال والنساء والمجاهدين والشهداء. لا تبعد ناظريك عن علي الأكبر ولا عن عبدالله الطفل الرضيع. فعجباً يا سيدي، لأمة ضاع فيها الحق وذبح أمام مرأى شهود الزور ممن عاشر صاحب الرسالة وعاش وحيها، وعجباً ممن عرف الأخلاق العظيمة بشخص الإمام الحسين، فلم يسترشد بها مسلكاً ووعظاً ليكون منارة خالدة في نهج العظماء، بل نكث بعهده وتفلت من الميثاق.
ندرك يا سيدي، أنك يوم نعت يزيداً بالفسق والفجور، قد أظهرت البعد النسبي وأرتباطك بأشرف خلق الله محمد، وأنك قد أظهرت أيضاً البعد الشرعي، أي أنه لا ولاية للكفر والفسق والفجور والضلال والغي على الإيمان، يا ابن الإيمان كله بمواجهته الشرك كله يوم وقف بوجه عمرو بن عبد ود العامري.
أدركت أن الولاية طعنت بصميمها لمن تولى وعمل بالمسلمين بأعمال كسرى وقيصر، وكان من أهل الغدر والمكر وأولي الجور والظلم وأكلة الرشا فقدموا المال والطعام بولايتهم إلى الشبعان واستبعدوا أصحاب الحاجات.
لقد أعظم الله لك الأجر أيها الإمام بصحبة عيالك وأصحابك وأنتم سائرون نحو كربلاء، وأعظم الله لك الأجر عندما تساقطت نبال القوم نحو الخيام ، فإذا بك تشحذ الهمم قائلا: إنها رسل القوم، فكانت كربلاء حيث تساقط أصحابك شهداء أمام عينيك، فكنت جسوراً مقداماً مبصراً الحق ومنتصراً له ودمائكم مباحة بين أرقاء بني أمية، فوقفت وحيداً في سوح كربلاء تنادي بأعلى الصوت ألا من ناصر ينصرني، ألا من مدافع يدافع عن بنات رسول الله؟ والقوم كانوا يرقبونك من بعيد نكثوا البيعة، وأضلوا السبيل بل هم يا سيدي الأخسرين أعمالاً في الدنيا والآخرة.
كانت ثورتك تنبع من إيمان الإنسان بالحرية والمسؤولية التي كفلها الوجدان الإنساني والشرائع السماوية، فكان شعارك إنطلاقة في فهم معاني البطولة، وكيف لا؟! والخيل تحيط بك من كل ناحية، وكيف لا؟، وأنت الإمام الذي يأبى الترفّع عن رعاياه في المخاصمة والمقاضاة، وكيف لا؟ وقد كانت ثورتك مشبعة بروح العدالة ودرعها الحصين أمام سلطة المال والخضوع والخنوع لغير شريعة الله في أرضه، وكيف لا؟ ، وأنت أبن من قال يوماً أقل الناس قيمة أقلهم علماً، وفيك نبع العلم والمعرفة والموقف، فجدك خير الورى والأنام محمد ووالدك سيد الوغى المرتضى علي، وأمك كريمة نبي الرحمة سيدة نساء العالمين فاطمة الزهراء، وأخيك السبط المسموم وأختك الحوراء الإنسية زينب المنسية.
وكيف لا؟ وقد قيل في أبيك يوماً: يا علي هلك فيك اثنان، محب غال ومبغض قال، وأنت يا سيدي يا أبا عبدالله نفس أبيك ابن أبي طالب.
السلام عليك ، يوم وقفت وحيداً أمام مرأى المتآمرين والأعداء تدافع عن حرامات رسول الله، والقوم يدعون لك بالنصر ويقاتلونك في آن، والسلام عليك يوم سقطت شهيداً مرملاً بدمائك، صريعاً على أرض الحرية، فجاء من جاء من أهل الخذلان والمكر والتنكر للمواثيق ييبكونك يا سيدي، كأنهم أرادوا أن يظهروا للآخرين أن قتلك قد كان بقضاء الله وقدره، وكأنهم أرادوا أن يبرروا فعلتهم الشنعاء في محاولة منهم تخفيف هول المصاب، ثم جاءوا ضريحك يقسمون اليمين على النيل من قتلتك، وتناسوا أنهم كاتبوك، ثم تنكروا، فدعوك إليهم ثم وهنوا، فسألوا الله نصرك، وأنت بينهم وحيداً ثم شاهدوا بأم أعينهم كيف تتقطع أوصال الشهداء وترفع الرؤوس على قنا الرماح.
بقلم الشاعر أ. د. حسين علي الحاج حسن.
Discussion about this post