قراءة في رواية تيــــTIANOــانو عزلة الأرض البعيدة؛ للكـاتب والإعلامي بوغازي مصطفى الصادرة عن القاهرة مؤخرًا، دار غراب، الطبعة الأولى 2021م/هـ 1442هـ.
بقلم/ صورية رزيقة سلماني
“تيانو” رواية تأسرُ تفكيركـ من عنوانها، فيغزو عقلك المتعطِّش لكلِّ ماهو غريب وجذاب واستثنائي، سؤال فضولي؛ ما معنى تِيانــTIANOــو! ولماذا اختار الكاتب هذا العنوان؟؟ هذا الذي استوطن عقلي حينها فاصطحبتني أحداثها مكبَّلة نحو أرض مهجورةٍ لا يسكنها إلَّا المجرمون _هكذا أُطلق عليهم آنذاك_ مكانٌ مخيف جعلَ أعزَّة أهلها أذلَّة، يجرون خلف لقمة العيش بثيابهم الممزَّقة وبطونهم التي تصرخ جوعًا لم تأكل منذ أيَّام، أو أسابيع تحت رحمة الجلَّاد.. إنَّها أرض “كاليدونيا” محرقة الآمال حيثُ تعدمُ كلمة الحق.. يسردُ لنا الكاتب بوغازي مصطفى الواقع المرير الذي عاشه الجزائريون في تلك الحقبة الملعونة، التي اغتَصب فيها الفرنسي الهمجي أرض الأحرار _الجزائر_ فوصف بكلماته العذبة والحادَّة التي تذبحُ سكون القارئ فتُدمي قلبه وقائع الذلِّ والاستحقار والتعذيب والظُّلم لرجال ما هانُوا ولم يهِنوا أبدًا، رجالٌ عقدوا العزم إمَّا الموتُ أو الموتُ؛ أن تحيا الجزائر والأرواح فداها..
سيسافر القارئ بين كلمات الكاتب بأسلوبه الشيِّق والجذاب الذي يحرِّك من خلالهم مشاعر القارئ ويقلِّب قلبه بين الحزن والفرح، الألم والخوف، الشجاعة والجبن.. الكاتب بوغازي، استطاع أن ينقل لنا أحداث الرِّحلة وما حدث في تلك الفترة ما بين 17 نوفمبر 1877م و 24 جانفي 1878م من بداية انطلاقة الباخرة “نفارين” من المحيط الأطلسي عابرة رأس الرجاء الصالح نحو أرخبيل كيرغولين إلى أرض القيامة الأولى والقصة المؤلمة لإبادة أمّة بأكلمها على يد البيض، ثمّ المحيط الهادئ أين تقع نوميا “كاليدونيا الجديدة”. هكذا بمهارة وإتقان ينقلك الكاتب بوغازي مصطفى من مكان لمكانٍ ويُدخلك كفرد من أحداثها، كأنّك تشاهدُ وتسمعُ لكنَّك لا تقوى على الكلام لتعبِّر عن مشاعرك، لتصرخَ في وجه الظلم، لتنقذَ أحدهم من الموت، لتواسي إخوتك الجزائريين حين تذلُّهم أقوام لا رحمة في قلوبهم ولا خوف..
الحقيقة، أكثر ما شدَّني في رواية “تيانو” التَّفاصيل المذكورة والاحداثيات بدقَّة، ووصف الجوّ آنذاك والحالة الاقتصادية، والوضع المادي يدلُّ على أنَّ الكاتب ذو ثقافة واسعة وملمٌّ بكلِّ شيءٍ ممَّا يجعلك تنهلُ من ثقافته بلا ندم، تجعلكَ تزداد نهمًا أكثر فأكثر مع كلِّ حرفٍ وسطرٍ وفصلٍ..
وعودة إلى الجانب المظلم من كلّ قصة؛ تفهم أنّ فرنسا سبب آلام الكلّ، سبب معاناتهم، عذابهم، أمراضهم، تشوهاتهم، فتلاحظ كيف أنَّ شعبها أيضا لم يسلم من معاملة المسئولين الوحشية والظالمة له، وستسمع أصوات المضطهدين وصرخاتهم من جوف تيانو؛ من خلال ما سيخبرونك به، كيف قطعت عنهم فرنسا كلَّ ذات وصل بها ونفيِهم إلى كاليدونيا، لكنَّها لم تقطع أبدًا أجنحة الفكر الذي ظلّ ينبض داخلهم ويضرب بأجنحته لتعلو كلمة المظلوم على الظالم [..] أرضٌ احتضنت أوطانًا باختلاف دياناتها وأعراقها وأصولها، احتوت أعزَّة أقوامٍ فصيّرتهم أذلّة؛ الموت من ورائهم والذلُّ من أمامهم، والعدوُّ يحيط بهم من كلِّ مكان، قلوبهم تنبضُ شوقًا لمن فرَّقتهم عنهم فرنسا الظالمة..
“تيانو” من بين الرِّوايات التي تجعلك تشعر بالفخر والشوق معًا؛ حين تعيش لفترة زمنيّة مع أشخاص _لا تعرفهم أو أنَّك تعرفهم بالاسم فقط_ فتعجبك شجاعتهم وإنسانيتهم؛ أمثال الشَّخصية عمار المرحّل من الجزائر، وأيضا شخصية الشيخ عزيز الحداد الذي كان يجاهد نفسه لأجل أن لا يقع في المحرمات كما أراد جبابرة فرنسا، وأحمد بومرزاق شقيق القائد الرئيسي لثورة 1871م وعضو في عائلة المقراني المرموقة المرحَّلين إلى كاليدونيا بتهمة التَّحريض على ثورة المقراني. أمّا عن الشوق فهو أن تعيش أحداث الرِّواية وأنت تحلم لو أنَّك معهم، فتُساند الجزائريين المضطهدين آنذاك، الذين أُلبست لهم تهمٌ ظالمة؛ فتخيَّل أنَّك مقيَّد بسلاسل في قفص كأنَّك حيوان مفترس ضارٌّ، متَّهم بجرمٍ وسوف يتمُّ نفيُك عن أرضك، وأهلك، وجيرانك، وبيت الله! وحين تتساءل ماهي تُهمتي؟؟؟ يقال لك؛ الدفـــاع عن أرضـك ودينــك وعرضـك!!!.
أترك لكم الكثير من الأحداث المؤلمة التي تدمعُ لها العين، ورحلة لا تُنسى في جوف تيانو “رحلة إلى الأرض البعيدة” التي أعدكم أنَّكم لن ترغبوا بنهايتها أبدًا..
Discussion about this post