قراءة نقدية:قصيدة: هنا مطر…هناك مطر
الشاعر حمد حاجي
الناقدة جليلة المازني
تجليات الميتاشعرية في قصيدة “هنا مطر…هناك مطر”
التفريغ النصي:هنا غيث نافع ..وهناك مطر
المقدمة:
أسباب نزول القصيدة الرباعية:ان نزول المطر في بلد الشاعر تونس هذه الايام (عبر عنه ب: هنا مطر) حرّك في الشاعر مواجع سكنت كل كيانه وهي مواجع غزّة الجريحة وغزّة الشهيدة.
ان الشاعر لم يستطع ان يستبشر بهذا الغيث النافع في بلد تونس هذا الغيث الذي طالما انتظره بلد تونس لاحياء أراضيه وانتشالها من الجدب الذي سكن عقلية الفلاحين .
ان عنوان القصيدة “هنا مطر.. وهناك مطر”يوحي الينا ان الشاعريستبشر بمطر ويستاء من مطر.انه يستبشر بالمطر الذي نزل غيثا نافعا على بلادنا تونس وقدانتظرناه طويلا ولكنه يستاء من مطريتساقط على غزةوجيعة وجدبا.
الفرق بين المطر والغيث
كثيرا ما يقال ان الغيث رديف المطر: ان معنى كلمة المطر هو ذاته معنى كلمة الغيث ويذهب البعض الى استخدام كل كلمة منهما مكان الاخرى مما ينفي المعنى الاصلي للجملةالتي استخدمت فيها كلمة الغيث او المطر حيث ان لكل منهما معنى وتوصيفا
المعنى اللغوي
يعرّف المطرلغويا بانه الماء النازل من السحاب وجمعه امطار والمطرياتي بالخير والنفع او بالضرر في وقته اوغير وقته .
اما الغيث فمعناه لغويا المطر الغزير الذي ياتي بالخير ويغيث من الجدب وجمعه غيوث واغياث ويطلق الغيث مجازا على السماء والسحاب والكلأ.
بعض علماء اللغةكابن منظور في كتابه”اللسان” يؤكدانه لا يوجد فرق دلالي بين الغيث والمطر بينما اكّد الثعالبي ان لفظ المطر لم يرد في القرآن الكريم الاّ بدلالة العذاب امّا عن الزمخشري فقال في هذه النقطة ان لفظ مطرتاتي بالخير او مع فعل ودلالته الخير فنقول: مطرت بالخير في حين ان ّكلمة أمطرت تصاحب الشرّ والعذاب فنقول أمطرت بالعذاب .
لقد جاء في فتح الباري لابن حجر”مطرت السماء في الرحمة وأمطرت في العذاب”
يقول ابن عينية:”ما سمّى الله مطرا في القرآن الاعذابا “.
يقول بعض العلماء واصحاب الاجتهاد ان الفرق بين الغيث والمطر ياتي بسبب النزول فياتي الغيث من وراء حاجة لانه يغوث وينجد الناس من الجدب والمرض والهلاك فيما ياتي المطر على غير حاجة.
الغيث والمطر في القرآن
جاءت كلمة الغيث في القرآن ثلاث مرّات ومنه قوله تعالى (وهوالذي ينزّل الغيث من بعد ما قنطوا)(الشورى:28).ويدلّ سياق ما سبق على قصد الرحمة واحلال النعم باستخدام كلمة الغيث وتفسير الآية الذي ينزل الغيث:اي الذي ينزل الماءمن السماء ومن بعد ما قنطوا :اي من بعد ما طال انتظار الناس لهذا المطرلدرجة الوصول الى “اليأس” وجاءت كلمة مطر في القرآن الكريم في قوله تعالى ولاجناح عليكم ان كان بكم أذى من مطر)(النساء 102)
اما لفظ أمطر فجاء في قوله تعالى:(أمطرنا عليها حجارة من سجيل)(هود:82) وهنا جاءت كلمة أمطربمعنى العقوبة.
وفي هذا الاطارومن خلال عنوان القصيدة “هنا مطر…وهناك مطر” نقف على المنحى الميتاشعري للقصيدة الرباعية “والميتاشعريةهي وعي ذاتي وخطاب شعري ضمن المنجز الشعري”
وهي” خطاب عندما تفكّر القصيدة في نفسها ومآلاتها”(1)
ان الشاعر يميّز بين ال.هنا وال.هناك وبين مفهومين للمطر: مطر ومطر
في هذا الاطار ان الشاعر يبني ويقوّض انه يهدم معنى المطر الذي يتبعه العذاب ويؤسس لمعنى المطر
باعتباره الغيث النافع الذي تعقبه الرحمة والنعمة.
===== يتبع=====
1- تجليات البنية التقويضية في القصيدة:
ان الشاعر لم يستطع ان يستبشر بهذا الغيث النافع في بلده تونس هذا الغيث الذي طالما انتظره لاحياء أراضيها وانتشالها من الجدب الذي سكن عقلية الفلاحين .
كيف للشاعر ان يستبشر بنعمة الغيث النافع في بلده وهو مستاء من مطر سيكون عذابا على غزّة.
انه مستاء لانه يشعربرابطة دم تربطة بغزّة وكأني به يلوم هذا التساقط وهذا المطرفيقول:
“تساقط.. تساقط..بغزة.. لنا اخوة في العرا والمطر” وبالتالي هذا المطر سيكون عذابا لاخوة بغزّة فلا شيء يحميهم من العراء والبرد فلا مأوى لهم يحميهم من هذا العراء بعد الدمار الذي ألحق بهم.
يعود الشاعر الى الغيث النافع في بلده هذا المطر الذي يسقي الثرى بل يتحدّاه ولا يبالي بخطره لان له
ما يحميه منه”تعال…انا أحتمي بمظلة نوء”هذه الحماية التي تجعله يفكّرفي منافع هذا المطر باعتباره غيثا نافعا في بلده “وتذهب بي للبعيد الفكر”
ثم يخاطب المطر بسلبيته(المطر عذاب لغزّة) والشاعر في ذلك يشخّصه باعتبار هذا المطر عدوّا لغزة ونرى الشاعر تارة يشمت في المطر(وتغلغل بين شقوق الحجر) وتارة يتألم اذ لا أحد تحت هذا المطر قادر على انقاذ”جثث في خطر”
تساقط ..تساقط..فلا أحد يبحث الآن
عن جثث في خطر…
أيا مطر أيا مطر
تساقط..تساقط..بغزة انا لنا فتية بالوجيعة تحت المطر.
ان الشاعر يخاطب المطر بضمير المتكلم الجمع(انا لنا)
ان شعوره بالانتماء العربي فان الشاعر لا يخفي عنّا نبرته الساخطة والمتحاملة على هذا المطر الذي يشكل مصدر عذاب وهلاك لغزّة .هذا المفهوم السلبي للمطر يتناصّ مع الآية102 من سورة النساءالمذكورة أعلاه:”ولا جناح عليكم ان كان أذى من مطر”
واكثر من ذلك فان الشاعر لفرط تعاطفه مع غزة فانه جعل من ضعفه قوّة وهل أكثر من جعل غزّة حبيبته التي يحميها من هول هذا المطر ويعيد اليها الفرحة بتجاوز كل العقبات والحبيبة لها دلالتها المعنوية فهي رمز الحب ورمز الجمال ورمز الغيرة عليها ورمز الحضن الدافئ ورمز السكينة وكل هذه المشاعر يكنّها الشاعر لغزة فيقول:
سأخرج في فسحة وألاقي الحبيبة تحت
ضياء القمر
سألبسها معطف الفرو…أحنو عليها ونقفز
فوق جميع الحفر
اذا ما سكتنا فخذ من حديث الرياض الينا
وحلو السمر
وخبّئ بأزرار قمصاننا فائحات الورود وبوح الزهر
والشاعرحتى وهو مع الحبيبة لا ينسى ألمه فيظلّ يئنّ أنين المريض الذي يجد في أنينه متنفسا يوهمه بنسيان الألم ولكنه يعود مرّة أخرى ليلقي اللوم على هذا المطرالذي لا يرحم “اخوة عالقين وتحت ركام الحجر”.
وبالتالي ومن منظور ميتاشعري نجد الشاعر يعيش محنتين:
– محنة غصّة القصيدة.
– محنة التشطيب او المحو.
وهذه المكابدة التي يعيشها الشاعر قد أجّجتها تلك الترديدة الحزينة”يا مطر..يا مطر”/تساقط تساقط”
وكأني بالشاعرينوح و يبكي غزّة التي لم يشملها دمار الحرب فحسب بل سيزيد المطر في عذابها.
======= يتبع ======
2-تجليات البنية التاسيسية للقصيدة:
ان الذات الشاعرة تريد ان تبني مفهوما جديدا للشعر ليكون حديث القصيدة الرباعية وقد تجلّى هذا منذ البداية من خلال عنوان القصيدة والمقابلة المعنوية بين المكان(هنا) والمكان (هناك) وبين مطر ومطر.
ان هذه المقابلة المعنوية بالعنوان تجعل الشاعر يمحو معنى ليعلن ميلاد معنى آخر .
يختار مطرا دون مطر
وأكثر من ذلك ان الشاعر جعل هذ الثنائية (ايامطر…يا مطر) عنوان كل قصيدة من قصائد الرباعية.
وهذا تاكيد منه على تقويض مفهوم لمطر والتأسيس لمفهوم آخر لمطر.
ان من تقنيات الميتاشعريةحسب الناقد”جون ريتشارد” استعمال الشاعر مفردات تشي بعملية القول الشعري وتنطوي على مكوّنات المنجز الشعري مع توكيد الشاعر على انه يستوطن ملكوت الشعر وان الواقع المعيش نقطة انطلاقه واشارات الى أثر القصيدة في نفس متلقيها.(2)
ان الشاعرطبع قصيدته الرباعية بثنائية عجيبة انها ثناية قائمة على نفس اللفظ(يامطر..يا مطر).
انها ثنائية قد نعتبرها قائمة على الحذف فيمكن ان تكون هذه الثناية كما يلي:”يا مطر الرحمة
يا مطر العذاب”وعلى هذا الاساس يمكن للذات الشاعرة ان تهدم مطر العذاب وتبني مطر الرحمة
ان تنسى كي تتذكّر
ان تمسح كي تعلن الميلاد
ان تنفي كي تثبت
ان تقوّض كي تبني.(3)
وبالتالي فان الشاعر لم يكن انهزاميّا بسبب ألمه ولم يكن مستسلما لوجعه فهو بالحبّ عانق غزّة الحبيبة ليضفي عليها الدفء ونبض الحياة.يقول:سأخرج في فسحة وألاقي الحبيبةتحت ضياء القمر.
سألبسها معطف الفرو..أحنو عليها ونقفزفوق جميع الحفر.
هذه الحياة التي ستعود لغزّة فتزينها ويحلّ البهاء والجمال لها. وقتها سيكون المطرمصدر رحمة ونعمة
باعتباره غيثا نافعا وبذلك يتناصّ هذا المعنى مع الآية 28 من سورة الشورى والمذكورة أعلاه”وهو الذي ينزّل الغيث من بعد ما قنطوا”
والشاعر استعمل جملة شرطية :اذا ما رأيت على وجنتينا جمان البهاء ونور الدرر
فكن كالجداول تسري لتروي منّا عروق الهوى والضجر
ان الجملة الشرطية تفيد ان قبول المطر مشروط بعودة الحياة الى غزة وعودة الحياة رهينة توقف الحرب
التي لم تبق ولم تذر:فكل نشيد نواح..وكل النوافذ مشرعة للتشرد او للسفر
ستسمع كسر الضلوع وتعرف معنى البكاءونوح الوتر
فهذا خراب وهذي قبور وكل المنازل أضرحة يا مطر
وكاني بالشاعر يدعو الى توقف الحرب ففي هدأة الحرب تخبو الجروح
ويخفت صوت وينسى أثر.
لقد استعمل الشاعر رويّا هو حرف “الرّاء”و”صوت حرف الرّاء على دلالات متضادّة مما يعطي القصيدة حسّا مرتفعا بالمشاعر المتأجّجة فهو يدلّ على القوّة أحيانا وعلى الضعف أحيانا أخرى ويمكن ان يكون فيما بينهما”(4) ولعلّ ذاك التمزّق الذي لامسناه في مشاعر الشاعر بين السخط والألم (المطر عذاب لغزّة)وبين الاستبشار بعودة الروح والحياة لغزة(المطر رحمة ونعمة) يبرّر اختيار الشاعر لهذا الرّوي حرف “الرّاء”.
الخلاصة: ان الشاعرحمد حاجي قد سخّر الذّات الشاعرة في هذه الرّباعية ليؤسس لمفهوم ايجابي للمطر باعتباره غيثا نافعا يعيد لغزّة الروح ويبعث فيها الحياة من جديد ويحيي ما مات فيهامن جمال بسبب دمار الحرب الذي ألحقه بها بكل وحشية الكيان الصهيوني.
المراجع:
(1)الناقدة هدى فخر الدّين :الميتاشعرية مشاريع الحداثة العربية:مجلّة نزوى 26/09/2014/
(2)نفس المرجع
(3) عبد الله المتقي:ناقد مغربي(قراءة في ديوان الشاعر التونسي محمّد العربي)
(4)موقع :موضوع سؤال وجواب:ما دلالة حرف الرّاء في الشعر؟
القصيدة : هنا مطر.. وهناك مطرْ
ا======= قصيد =======
أيا مطرا.. يا مطرْ..
تساقطْ.. تساقط.. بغزة.. إنّ لنا إخوةََ في العرا والخطرْ
..
.
تساقط على طول هذي الشوارع واسْقِ الثَرى يا مطرْ…
تعال.. أنا أحتمي بمظلّة نوءٍ وتذهب بي للبعيد الفكرْ
وأنت اُلْثُمِ العشبَ مغتبطا وتغلغل بين شقوق الحجرْ
تساقطْ.. تساقط… فلا أحدٌ يبحث الان عن جثثٍ في الممرْ
****2****
أيا مطرا.. يا مطرْ..
تساقطْ.. تساقط.. بغزة.. إنّ لنا فتيةََ بالوجيعة تحت المطرْ
..
.
سأخرج في فسحة وألاقي الحبيبة تحت ضياء القمرْ
سألبسها معطف الفرو.. أحنو عليها ونقفز فوق جميع الحفرْ
إذا ما سكتنا فخذ من حديث الرياض إلينا وحُلو السَمَرْ
وخبئ بأزرار قمصاننا فائحاتِ الورود وبوح الزّهرْ
.
****3****
أيا مطرا.. يا مطرْ..
تساقطْ… بغزة.. إنّ لنا إخوةََ عالقين وتحت ركام الحجرْ
تساقط.. وزين ملامحنا بالضياء كما زان وجهَ الصبايا الخَفَر
إذا ما رأيت على وجنتينا جُمانَ البهاء ونور الدررْ
فكن كالجداول تسري لترويَ منا عروق الهوى والضجرْ
فإنّا سنحمل أحزاننا كالكمان ونمضي بها في دروب السفر..
.
****4****
أيا مطرا.. يا مطرْ..
تساقطْ.. تساقط..
ففي هدأة الحرب تخبو الجروح ويَخْفُتُ صوت ويُنْسَى أثرْ
فكل نشيد نواح.. وكل النوافذ مشرعة للتشرّد أو للسفر
ستسمع كسر الضلوع وتعرف معنى البكاء ونوح الوَتَر
فهذا خراب وهذي قبور وكل المنازل أضرحة يا مطرْ..
.
ا====== أ.حمد حاجي =======
:
Discussion about this post