(لأنّ الحلم يحيا و لا يموت)
احتمالات الموت في هذا البلد كثيرة جدّا بينما
تُعدّ النجاة معجزة كُبرَى ..
أمّا أنا فلم أدرك قبل هذه اللّحظة أنني متشبثة بالحياة إلى حد هذه الدّرجة
و لعلّها الحياة التي تنمو في ظلمة أحشائي التي تدفعني عنوةً إلى البقاء
و ثبثّ في صدري نفسَ الوجود و أنا على حافة
الفناء ..
يومها ركضت دون وجهة محدّدة بحثت
عنك ..عن يديك..
عن رأسك .. عن شيء منك
و لكنّني لم أجدك
يا لها من خيبةٍ محزنة حارقة حدّ الشهقة !
أنتَ الذي كنت بجانبي دائما دونما أن أبحث عنك أبدًا ..
ناديتك بصوت اقتلعته من حنجرتي بكل شراسة و ابتعلت كلّ الدّم العفن حتى أقول لكَ أنني هنا صامدة من أجلك ..
من أجل كل الذي حلمنا به من بيت لطيف صغير و حبّ كبير و وطن حرٍّ !
يومها عشت من أجلك أنت و من أجل كل حلمٍ
دفعني نحوك ..
ذلك الصباح البارد جمّد في عروق الدمّ
نهضنا باكرا صوت القنابل المدوي المختلط بصوت الصيّاح المتعالي اخترق جلدي..
رائحة الموت المتأتيّة من بعيد
تصيببني بدّوار
و برجفة في كلّ حواسي البشريّة كنت بجانبي توسّدت ذراعيك مرتجفة ..
همست في أذني:
” ! لا تخافي”
سألتك ” أ لم يُخفك صوت القنابل و طلقات المسدّسات يومًا ؟”
أجبتني : لا شيء نخاف منه نحن الذين عشنا على فتات حلم وطنٍ حرّ ..
و لكن هنالك أشياء كثيرة نخاف عليها
لذلك نحن نقاوم حتّى تجفّ ٱخر قطرة من دمائنا..”
و كم تساءلت حينها لمَ كُتب علينا و على أبناء
بلادنا كلّ هذا الشقاء؟
لمَ كُتب علينا أن نخاف من أشباح الموت اللذين يترصدوننا من كل جهة و أن نخاف على
كل شجرة زيتون و ياسمين غرست في هذه الأرض ..
لنجدّ أنفسنا في حالة خوف و حالة مقاومة في ذات اللّحظة !
إنه قدرنا المحتوم إذن، أن نحارب الموت من أجل الحياة
و أن نحارب القهر من أجل الكرامة
و أن نحارب وحشة الظلمة من أجل بريق النور..
دار كلّ هذا في رأسي المستلقي
على ذراعيك و قلبي يردد من عمقه “أيّ سرير يقدر على حمل ثقل مخاوفي و أحلامي بعد ذراعيك؟”
كنت حينها في حالة تأمل عميقة لملامحكِ الصّافيةِ بالرغم من ٱثار الحرب الموجعة التي جعلت منك رجلا شديدا منذ لحظاته الأولى في هذه الحياة ..
و كم تمنيّت أن يكون ابننا الذي يسكن ظلمات رحمي مثلك أنتَ تماما ..
كان يقتلني الصوت الذي يتكلّم بداخلي
و يخبرني أنك سترحل في لحظة ما عنّي
و لن أجد إليك طريقا
و لِيكنْ في ابن من دمك
و لحمك عزاء
لقلبي المكسور !
كنّا بالدّاخل اختبئنا تحت قبوٍ مظلم خانق
و لكن لا مفرّ لنا غيره
ففي حالات المداهمة المفاجأة و العنيفة لجنود الأعداء يختبأ الجميع
في حجرات صغيرة تحت الأرض في محاولة صريحة منهم للنجاة !
إذ أن أشباح الموت لا يرحمون أحدًا
فهم يريدون افتكاك الأراضي عنوة فبعد تهديداتهم المتواصلة لإخلاء المكان
و أمام إصرارنا نحن في البقاء
اشتدت المواجهات و قامت الحرب بين رصاصة
قاتلة مع سابق الرصد و الإصرار و سنبلة قمح تنتظر الحصاد..
لقد كنت أنا مثقلة بطفل لم يدرك النور بعد
و أنت مثقل بعائلة صغيرة لم تكتمل بعد ..
نزلنا إلى القبو خطوة خطوة و بداخلي ألم كبير أننا لن نخرج منه معًا !
و كان الصوت المدوي بالخارج يقترب شيئا فشيئا
كما كان الموت يقترب معه على مهلٍ ..
أظننا مكثنا ساعتين أو أكثر بقليل
كنت كلّما هممت بالخروج أتوسّلك أن لا ترحل
أن تظلّ هنا !
أن أودّعك كما أشاء لا كما يشاء الموت ..
كنت تمرّر يديك فوق بطني متكوّر من حين إلى ٱخر تبتسم
و تقول ” سنسميه يحيَ
.. لأنه الحلم الذي سيحيا ”
و فجأة اقترب صوت المدافع و تسارعت خطوات الموت نحونا
! يا لشراسة الموت
! يا لوحشية الأعداء
! يا لمأساة هذا الوطن
! يا لوجعي أنا
نظرت إلى عينيّا نظرة
أخيرة ودّعتني دون كلام
قلت الكثير دون أن تقل
جملتك الأخيرة هي التي جعلتني أتشبث بهذه الحياة و جعلت هذه الحياة من نصيببي
” عيشي أنت يا حبيبتي
و امنحي ليحي الحياة
علمّيه أن الموت للشجعان
و أن الأوطان المسلوبة
لا تمنح مجددا بل تُفتك ! ”
لم أقل لك شيئا حينها و لكنني بكيتُ بكيت كل شيءٍ ..
هذا القبو لا يحتمل أكثر من حياة واحدة و أنتَ منحتني إيّاها دون أن أطلب !
حملت بُندقيتك و أخذت معك كلّ قلبي و رحلت
كنت أعلم أنّك لن تعود ..لن تعود بعد هذا الرّحيل و لكنني انتظرت لقاءك
و لا زلت أنتظر يا حبيبي !
كان بيننا طلقة بندقيّة اخترقتك و اخترقتني
أسالت دمك و أسالت دمعي ..
نهضت من مكاني رغم ثقل خطواتي
كنت سأخرج من قبو الأمان و أتخلّى عن فرصة الحياة الأخيرة
و لكن منعني يحي
منعتني الحياة التي بداخلي !
فبلعت ملح دمعي بصمت
اختبئت في الظلمة
تحسست أثر العدو و عندما هدأت الأصوات المنادية إلى الموت بالخارج
فتحت باب القبو الخلفي بحذر
هي فرصة حياة وحيدة و المحافظة عليها وعد قطعته من أجل عينيك !
و لم يكد يفتح الباب تماما حتّى رأيتك
جثة هامدة تسبح في نهرٍ من الدّم!
إلهي كم كان وجهك صافيا كما عاهدتك دائما
سقطت على ركبتيّا
بكيتك بصمت رهيب قبّلت وجهك لٱخر مرّة وددت لو لمست يديك لٱخر مرة كذلك لكن الذي يسرق منا الدّيار يسرق منّا كذلك لحظات الوداع الأخيرة ..
و من بعيد رأيت جنديا يحمل الموت على ذراعيه
أخذت في الرّكض
إلى حد تجاوزي للقريّة التي رويت حقولها بدماء أبناءها !
ركضت دون وجهة معيّنة ..
ركضت حتى انقطعت أنفاسي
و حتّى سال الدم منّي
فاختلط بدمك الملطّخ على ثوبي !
“إلهي أيّ جذع نخلة سأهزه نحوي حتّى
يسقط منه حبّات تمر!”
إلهي أقولها كما قالتها العذراء يا ليتني كنت نسيا منسيا ..
وحدي هنا تاركة ورائي الدم و الموت
وحدي هنا أنتظر في حياة من رحمي
وحدي يا حبيبي استودعتني جزءا منك و رحلت !
صرخت و صرخ يحي و صرخت البنادق
و عاش يحي
ولدت ابنك و الموت يحدّق بنا من كل صوبٍ
عاش يحي كما أردت أنتَ !
عاش الحلم كما أردتَ أنتَ !
و لإن احتمالات الموت في هذا البلد كثيرة جدّا بينما تُعدّ النجاة معجزة
كان ابننا هو المعجزة ..
بقلم …. خولة أسعد اليزيدي
Discussion about this post