* من رواية (ملح السّراب)/٦/
مصطفى الحاج حسين.
إنتشر الخبر وتسرّب بين الأولاد في كلّ أزقّة البلدة ، والكل صار يعلم أنّ المدعو (زكور الصّخلة) الملقّب بأبي (درخوش) وهو صاحب حمير (التّشباية) التي يقودها صباح كلّ يوم أحد ، من أيّام الرّبيع ، إلى البازار ليتكسّبَ بها بضعة نقود . حيثُ كانَ الأولاد يتجمّعونَ ، ومنهم من يهرب من المدرسة ، بدافع الفضول والرٌغبة في رؤية عمليّة (التٌشباية) شاعرينَ بالمتعة والإثارة ، مشدوهين ، مسلوبي الأبصار ، ضاحكين ومهتاجين .
وكان أبو (درخوش) المعتاد على القيام بهذه العمليّة ، منهمكاً بها إلى درجة الانفعال ، يسحب الحمارة التي ستحبل اعتباراً من هذا اليوم ، ويتركُ حماره الضّخم يقترب من الحمارة ، بضعة دقائق يتشمّمها حتّى يثار ويهتاج، فيقترب منهما أبو (درخوش) ويهمس بأذن حماره، كلمة (زقردو) فيقفز الحمار، ويعتلي بقوائمه ظهر الحمارة، آخذاً بعضّها من ظهرها، في تلك اللحظة ينتبه أبو (درخوش) لوجود الأطفال وهم مثارون ومهتاجون ويصرخون ويصفّرون ، فيصرخ بهم غاضباً :
– إذهبوا من هنا يا أولاد (القحبة) والله يا (عرصات) لو أمسكتُ واحداً منكم بيدي لتركت الحمار يفعل به ، مايفعله مع هذه الحمارة .
ويتابع كلامه وهو أكثر هياجاً حين يرى قهقهات الصّغار الخبيثة :
– إذهبوا ، تفرّجوا على آبائكم وأمٌهاتكم .
ثمّ يردف قائلاً جملته المعروفة :
– (جيل بندوق) .
بعد ذلك يخرج من جيب (شرواله) الأسود ، علبة دخانه الصّدئة ، ويبدأ بدرج سيكارته الغليظة ، متناسياً أنّه قبل قليل ، أمسكَ بيديه عضو حماره ليضمّه في الحمارة .
ولكن الجديد في الأمر، هو الخبر السّار الذي إنتشر مؤخّراً ، ومفاده أنّ أبا (درخوش) قد افتتح فرعاً خاصّاً، من أجل تقديم المتّعة للأولاد. يأخذ من الولد ربع ليرة مقابل أن يسمح له بالإختلاء (بالكرٌة) الزّرقاء التي اشتراها لأجل هذا .
قرر (رضوان) وابن عمّه (سامح) وبعض رفاقهم من أولاد الحارة، الذهاب إلى دار أبي (درخوش)، وكان عددهم عشرة حينما طرقوا بابه.
خرج عليهم (أبو درخوش) وكان مبتسماً، وكانت هذه أوّل ابتسامة يروها له ، قال مرحّباً :
– أهلاً وسهلاً بالشباب ، تفضّلوا .
ولمّا كان الحياء يمنع الأولاد من الكلام، لتوضيح سبب مجيئهم، لكن أبا (درخوش) عرف ذلك فقال بعجلة:
– أدخلوا ، لا يجوز أن يراكم أحد واقفين هكذا .
دخل الأولاد وهم في أشدّ أنواع الحرج والإرتباك، صاروا وسط باحة الدار الخربة، وأخذوا باشعال السّجائر ليواروا خجلهم واضطرابهم، عاد أبو (درخوش) بعد أن مدّ رأسه داخل الغرفة، وتكلّم بضع كلمات مع (حليمة) زوجته التي تتردّد حولها شائعات تقول بأنّ زوجها أبو(درخوش) يسمح للرجال بالنٌوم معها مقابل عدّة ليرات ، متّخذاً الغرفة الوحيدة مقرّاً لذلك ، بينما يتمشّى هو في باحة الدّار .
قال أبو (درخوش) موجّهاً كلامه للصبٌية :
– حظّكم جيّد ، منذ قليل انتهيت من تغسيل العروس .
تشجّع (عثمان) وهو يكبر رفاقه بالسٌن ، فقال :
– نحنُ يا أبا (محمود) ..
وهكذا كانوا ينادونه في حضوره
لأنٌ لقبه يطلق عليه في غيابه ، لكنّ بالطّبع كان يعرف هذا اللقب.
– نريد أن نعرف كم ستأخذ منّا ، مقابل أن تتركنا مع العروسة ؟.
كتم أبو (درخوش) ابتسامته ، وقطّب وجهه القبيح متّخذاً طابع الجّد والتفكير ، رفع يده وأخذ بأصابعه المثقلة بالخواتم الحديدية ، يفتّل (شواربه) الغليظة كسيكارته ، وقال :
– سآخذ ربع ليرة فقط من كلّ واحد منكم .
قاطعه (عثمان) وقد زال عنه حياؤه واضطرابه :
– ياأبا (محمود) ، نحن كثرة ، نريد أن نتّفق معك على الجّملة ، والجّملة غير المفرّق .
ر عادت الابتسامة المصحوبة بالزّبد واللعاب ، ترتسم على فمه الواسع التّكشيرة والمرصّع بأسنانٍ ذهبيّة متفرّقة :
– أنتم معذورون، لأنّكم لا تعرفون العروس، لكن أقسم لكم بشرفي الذي لا أملك غيره، وليس لكم عليّ يمين. بأنَّ هذه العروس الزّرقاء لا مثيل لها، فهي من تركيا أصيلة، ذات حسب ونسب، جميلة وصغيرة ، لا تغدر ولا تقاوم وهذا شيء تحمد عليه ، ولا تهرب من فارسها ،وهذه ميّزة حسنة وهي لا تنزعج من الإقتراب منها ، وهذه عادة رائعة ومن النادر توافرها في غيرها ، إنّها لطيفة وحسنة المعشر ، ولا تصدر صوتاً أو نهيقاً .. وهي نظيفة حيث أغسلها بالماء والصابون ، وأقوم بتعطيرها ، فرائحتها طيبة ، والأهم من كلّ ذلك ، وأقسم لكم بشرفي الغالي أنّني لا أطعمها غير الشّعير النظيف والغالي الثمن ، وأنتم تعرفون كم سعر الكيلو غرام منه ، إنّها تكلفني الكثير ، بغضّ النظر عن تعبي واهتمامي الدّائمين ، هل تعلمون أنّني لم أضعها مع زملائها الحمير خوفاً عليها منهم ، فهي جميلة وصغيرة ، ولقد اختلفت مع زوجتي (أم محمود) بسببها ، لأنّني الغيت المطبخ ، وخصّصته لها ، وصرنا نطبخ في غرفتنا الوحيدة ، لكي أضعها في بمفردها ، ليأخذ الزّبون راحته معها .. هل كثير بعد كلّ هذا مبلغ الربع ليرة ؟ .
قال (عثمان) بأعصاب باردة :
– ونحن يا أبا (محمود) لن ندفع لك سوى (فرنكين) على الواحد منّا .
أرادَ أبو (دَرخُوش) أن يتكلّم ، لكنّه توقّف بعد أن نظر إلى الأولاد بعينيهِ المعمصتينِ نظرة توحي باللومِ والعتابِ ، واتّجهَ نحو الزّريبةَ الخاصّةَ بالعروس :
– تفضلوا .. القوا نظرة عليها ، قسماً بشرفي ، والشّرف غالي كما تعرفون .. منذ يومين حمّمتها (بالكالونيا) .
إمتطّت أعناقَ الفتية الصغار، واندسّت رؤوسهم من خلال الباب الموارب، ناظرينَ إلى (العروس) الواقفة بكلَّ استكانة ، كانت بحجم النّعجةِ ، ولمحوا في جسدها وقوائمها بعض الجّروح المدّماة ، والذباب يتطاير فوقها بكثرة ، كانت مربوطة بالرَّسن وقوائمها الأربع موثقة بحبلٍ متينٍ وغليظٍ ، بينما كان رأسها الكبير مزيّناً بباقة وردٍ حمراء اللون ، جافة الأوراق ، أمّا عيناها الواسعتان ، فقد غطّاهما الدّمع والوسخ الأصفر :
– انظروا بأنفسكم ، واحكموا .. بذمّتكم ألا تستحقّ الرّبع ليرة ؟! .
كرّر (عثمان) موقفه الذي بدأ يضايق الأولاد جدّاً ، فهم على عجلة من أمرهم :
– (فرنكين) فقط يا أبا (محمود) .. وإلّا دعنا نخرج .
حينما أدرك أبو (درخوش) ثبات موقف الأولاد .. أجاب :
– على بركة الله .. إتّفقنا .. هاتوا النقود سلفاً .
أخرج كلّ من الأولاد (فرنكين) أصفرين من جيوبهم ، وسلّموا جميعهم النقود لأبي (درخوش) الذي قال :
– تفضّلوا .. ولكن بالدّور طبعاً ، و بسرعة.
دخل (عثمان) الزّريبة في البداية ، وأغلق الباب الخشبي خلفه . ووقف الجّميع في باحة الدار يدخّنون وينتظرون ، يسيطر عليهم الخوف والإضطراب والقلق ، بينما أسند أبو (درخوش) ظهره إلى الحائط ، منهمكاً بدرج سيكارته .
كان (رضوان) آخر من دخل على (العروس) ، وكان كثير من الحيرة وغير قليل من الإرتباك يسيطران عليه ويضغطان على أعصابه . فكَّ أزرار البنطال ، أنزله إلى الركبتين ، إعتلى الحجر ، وقف بشكل مناسب تماماً .
كانت (سمر) الشّقراء في مخيّلته
(سمر) الرائعة الجمال ، زوجة رئيس المخفر (أبي ضرغام) الذي يخافه جميع أهل البلدة ، بمن فيهم والده ، الذي وقع تحت رحمة سوطه مدّة ثلاثة أيام ، بحجّة تعاطيه الحشيش ، ولم يفرج عنه ، إلّا بعد أن أخذ منه مئتي ليرة رشوة ، وإذا كان أبو (ضرغام) مكروهاً من قبل أهل البلدة ، فإنَّ حبهم جميعاً كان منصبّاً على زوجته الشّقراء (سمر) ، كانوا يحبونها إلى درجة العشق ، فهي الوحيدة التي تخرج إلى الحارات سافرة دون ملاية سوداء ، متبرّجة معطّرة ، ولطالما وقف (رضوان) أمام باب بيتها الذي لا يغلق ، ليراقب حركات جسدها اللدن ، الذي لا يفارق خياله .
بينما كان (رضوان) سارحاً بخياله، فاجأته (العروس) بنهي قها العالي ، فجفل وانسحب بسرعة ، وخرج ملوثاً ، وهو في أشدّ حالات الضّيق فأخذ (سامح) ورفاقه يضحكون منه بصخب ، حتى خيّل له أنَّ السّماء والجّدران الحوّارية المتهالكة تشاركهم قهقهاتهم تلك ، ومنذ ذلك اليوم ، ورفاقه يضحكون منه كلّما صادفوه ، وقد أطلقوا عليه لقب (العريس) .
لكن ماحدث بعد ذلك ، شيء فظيع، فبعد أيام بدأ (رضوان) يشعر بالحكّة، وأخذت تتزايد، ثم برزت بثور ناعمة صفراء، إنتشرت سريعاً، حتى إكتشف، أهله الأمر .
مصطفى الحاج حسين.
حلب
Discussion about this post