يقولُ الفرنسي “رولان بارت” “أنْ تنتقِد هي أن تضعَ الفِكر في أزمة”ولقد عرَّف في كتابهِ “الدرجة الصفر في الكِتابة” مفهوم الكِتابة فيقول “الكتابة هي تغريبٌ للمعنى “وأشار أيضا في نفس الكتاب لمسألة مهمّة وجديدة وهي موت المُؤلِّف من حيث انتهت وظيفته في تصوير الفكرة فيقول “لقد كتبتُ هذا الكِتاب ولم يعد يهمُّني وأنتَ القارئ مُهمَّتُكَ إنتاج المعاني”وهنا يشير الكاتب إلى ولادة ما يُسمَّى بالقارئ أي ان مهمة الكتابة تحولت الى مسؤولية في فهم إنتاج المعاني والأفكار وكلُّ نصٍّ تختلفُ مَعانيه باختلاف القارئ ويكونُ هناك تجديدٌ جلي مع كلِّ قراءةٍ جديدة ولكن وإن اعتبرنا ان الحداثة وجها لقراءة مختلفة لواقع متغير فهي ليست حِقبة تاريخية مُعينة بل هي موقفٌ يجب التشبُّعُ به واستيعابهُ جيدا على حدِّ قول “ميشيل فوكو” إنَّ الحداثة هي شيءٌ مركزيٌّ في الإنسان من أجلِ الخروج من متاهة الماضي وقوقعة الهويّة” فلا يمكنُ تجاوز الحداثة إلا باستيعابها فلقد أخذت الحداثة منحًى آخر في نظر الفرد ما جعلها تدخلُ في صراعٍ طويل الأمد مع التقليد إذ يجبُ استيعاب والتشبع بالحداثة للانخراط في الكوني وهنا نتحدث عن الحداثة بين القراءة والكتابة .
كانت روما عاصمة الإمبراطورية وقلب العالم المتحضِّر اجتذبت إليها عددًا من العلماء والفلاسفة والأدباء وقامت مدرسة افلوطين التي كانت شديدة الجدل مع سيادة روح البحث الحر فكان الطلبة يتعلَّمون كتابة المقالات وإنشاء الرسائل وهكذا استطاع أفلوطين بأصالة تفكيره أن يُجدِّد الأفلاطونية وأن يمزج بينها وبين المشَّائية والرواقية و الفيثاغورية وأن يخرج بمذهبٍ جديد ومدرسة جديدة تُعدُّ آخر المدارس الفلسفية اليونانية ولكنه تميَّز عن السابقين بمنهجه الجدَلي الذي يتأمَّل في باطن النفس ليصعد من ذلك إلى عالم العقل وفي ذلك يقول: «إن من قدر على خلع بدنه وتسكين حواسه ووساوسه وحركاته قدر أيضًا في فكرته على الرجوع إلى ذاته والصعود بعقله إلى العالم العقلي “
وهذا ما يجعل الفكرة رهينة عاملين اثنين وهما الكاتب والقارئ فكيف تحرر الفكرة من الوضعية الحسية لما يعيشه المؤلف ومن كل التناقضات التي يمر بها لولادة الفكرة من جهة ؟
وكيف تكون الفكرة مستقلة عما يمر به القارئ في لحظة قراءته للنص ؟
يرى الدكتور محمد الشيخ الباحث والمفكر المغربي في كتابه نقد الحداثة في فكر نيتشه أنه يستحيل “رفع الحجب التي اعتلت فكر نيتشه” دون استيعاب نقده للحداثة ورؤيته للقيم والمعنى والعالم الحديث يعتمد النقد في هذا الكتاب على نظرية الإرادة التي صاغها فيلسوف المطرقة في (إرادة القوة) وتطبيقاتها في كل المجالات التي وطئها نيتشه، الموسيقى، الفن والأخلاق ولقد اخترت نيتشة وذلك لتعمق الفكرة لديه فلَقدْ كانَ لِنيتشه مِنَ العِلمِ مَوقِفٌ لا شَكَّ فِي أنَّهُ يُميِّزُه عَن مُختلِفِ التَّيارَاتِ الوُجُودِيةِ تَميِيزًا أسَاسِيًّا؛ يظهر تحمَّسُه للعِلمِ ويُؤمِنُ بِه إِيمانًا عَمِيقًا.»
يقول “إنَّ الإِلهَ قَد مَات ونحنُ الذِينَ قَتلنَاهُ.» مَقُولةٌ ردَّدَها نيتشه فِي كِتابهِ «هكذا تكلَّمَ زرادشت»، حَفِظَها التَّارِيخُ ومَا زَالتْ آثارُها بَاقِيةً إلى اليَوْم إذ كَانتْ فَلسَفةُ نَتِيجةً لِما عَانَاهُ المُجتَمعُ الأُورُوبيُّ مِنَ انحِطاطٍ أَخلاقِيٍّ إِثرَ تَأثِيرِ الكَنِيسةِ في تلك الفترة وما تَتمَحْورُ فَلسَفةُ حَول الاعقلانية والفردية وهنا تكمن هيمنة الافكار في الكتاب فإذا كتبت المؤلف عن الجمال ولكنه لا يشعر به حسيا وانما هو من الموروث الثقافي والمعرفي حول مفهومه يصبح الجمال بهذا المعنى غير متكامل فَلا مَعنَى للوُجودِ الإِنْسانيِّ إلا بادراكه من جوانبه المختلفة الحسية والمعرفية وهذا ماعبرت عنه بالاحتضار الأول للفكرة .
أما الاحتضار الثاني فهو كيف يرى القارئ الفكرة ؟
أكدت الوضعية كما يراها ” اوغست كونت على رغبتها في بناء عقيدة أخلاقية لا تدين بشيء للخوارق فإذا كنا بحاجة إلى سلطة ليس لنا الا سلطة العقل اذ تظل الكتابات الباكرة نقطة البداية المطلوبة لكل راغب في فهم الهدف الذي كان كونت “يلاحقه” باستمرار في حين يرى الطرف الآخر أنه من المهم اﻹقرار بفطرة الغرائز التعاطفية فإن البشر مضطرون إلى الاعتراف بضعفهم الأصلي: وبالتالي فإن تفوق الميول واضح جدًا لدرجة أنها هي نفسها أحد أكثر السمات لفتًا للنظر في طبيعتنا وبهذا تتحول الأفكار الى أفكار أكثر عمقا أو الى التهميش في النص الأساسي .
وأخيرا فإن الشيء نفسه لا يمكن قوله بعيدا عن طبيعة جنسه وماهيته فبالنظر إلى أن الفصل بين السلطتين الروحية والزمنية يستند على الفصل بين النظرية والممارسة كيف يستطيع ا لقارئ أن ينصف الفكرة من أجل الفكر نفسه والمنطق بكل امانة ونزاهة ؟
Discussion about this post