الطبيبة توحيدة عبد الرحمن وشقيقتها المحامية الأستاذة مفيدة عبد الرحمن تعدان بحق امرأتان فوق العادة، حيث سجل التاريخ اسم كل منهما بحروف من نور، حيث سجلت توحيدة اسمها في سجلات التاريخ بكونها أول طبيبة تعمل في مستشفى مصري عام، واستطاعت أن تنال إعجاب وتقدير كل من يعرفها لنبوغها وصدقها وإخلاصها في عملها، كنا استطاعت شقيقتها مفيدة أن تمارس المحاماة بتميز ونبوغ، وتألق اسمها وذاع صيتها وترافعت في مئات القضايا التي شغل بعضها الرأي العام لسنوات طويلة، كما كانت برلمانية ذات دور سياسي معروف.
ووالد الطبيبة توحيدة والمحامية مفيدة هو الأستاذ عبد الرحمن محمد مصطفى أفندي، الذي كان يعمل موظفا في مصلحة المساحة، وكان يمتلك موهبة الخط الجميل، وكتب المصحف الشريف بيده بالرسم المغربي مرة كما نسخه بالرسم العثناني 18 مرة، وكان يسكن في حي الدرب الأحمر أحد أحياء مصر العتيقة والأصيلة، وأنشأ مطبعة خصصها لطباعة المصحف الشريف ونشره، كما كان رجلا متفتحا سابقا لعصره، ولذلك فقد حرص على أن يعلم أبناءه وبناته تعليما راقيا بمصر والخارج، ولذلك اتخذوه مثلا أعلى في التفوق والكفاح والإبداع.
وقد ولدت توحيدة في سنة 1906، والتحقت بمدرسة السنية للبنات، وأحبت اللغة الإنجليزية وتفوقت طوال مدة دراستها، ولذلك رشحتها ناظرة المدرسة السنية الإنجليزية الجنسية للدخول في المسابقة التي أعلنت عنها الحكومة المصرية، لاختيار ست طالبات متفوقات لإرسالهن في بعثة إلى بريطانيا لدراسة الطب تحت رعاية الملك فؤاد، وكانت توحيدة بالفعل من بين الفائزات الست بهذه البعثة، وفي سنة 1922 سافرت إلى بريطانيا للدراسة، وكان عمرها في ذلك الوقت 16 سنة، وأثبتت تفوقها طوال سنوات دراستها، واستمرت في الخارج لمدة 10 سنوات أخيرا عادت الطبيبة توحيدة عبد الرحمن إلى مصر في سنة 1932، وكانت بذلك ثاني آنسة مصرية تحوز شهادة الطب من بلاد الإنجليز بعد زميلتها هيلانا سيداروس.
وبعد عودتها بأيام تم تعيين الطبيبة توحيدة عبد الرحمن في مستشفى كتشنر الخيري المسمى بمستشفى شبرا العام حاليا، ورفضت العيادة الطبية المجهزة التي كان قد أعدها لها والدها في شارع عدلي بوسط البلد لتبدأ حياتها العملية، وفضلت أن تعمل في الحكومة من أجل رد الجميل لمصر، كما عملت في وزارة المعارف ووصلت لدرجة كبيرة طبيبات وزارة المعارف، ومديرة الصحة المدرسية، وفي سنة 1932 تزوجت من المستشار محمود عبد اللطيف الذي كان أصغر وكيل نيابة في مصر، والذي قام بالنظر في عدد من القضايا الكبرى التي شغلت الرأي العام في مصر، والذي تدرج في المناصب حتى وصل إلى درجة رئيس محكمة استئناف القاهرة بدرجة وزير، والجدير بالذكر أنها قد استقالت من عملها في سنة 1952 لكي تتفرغ لأسرتها وأبنائها، ورحلت الطبيبة توحيدة عبد الرحمن عن الدنيا في يوم 10 سبتمبر سنة 1974.
ولقد كانت الطبيبة توحيدة عبد الرحمن بمثابة القدوة والمثل لشقيقتها الصغرى مفيدة، ولذلك كانت مفيدة تتمنى أن تصبح طبيبة مثل شقيقتها، ولكن صرفها الزواج المبكر عن تحقيق ذلك الأمل، والطريف أن الشقيقتين قد تزوجتا من شقيقين في نفس اليوم، حيث تزوجت الطبيبة توحيدة عبد الرحمن من المستشار محمود عبد اللطيف بن الخطيب، وتزوجت المحامية مفيدة عبد الرحمن من شقيقه الناشر والمفكر الإسلامي محمد عبد اللطيف بن الخطيب.
وتم زواج مفيدة عبد الرحمن قبل حصولها على البكالوريا، وبعد حصولها عليها أرادت أن تلتحق بكلية الحقوق، ولكن لأن دخول الجامعة كان محظورا على المتزوجات في ذلك الوقت، فرفض عميد كلية الحقوق السماح لها بدخول الكلية بعد علمه أنها متزوجة، وتوسط لها الكثيرون لدى إدارة الجامعة التي اشترطت موافقة زوجها لقبولها بالجامعة، خاصة وأنها كانت زوجة وأم لطفل صغير، وبالفعل التحقت مفيدة عبد الرحمن بكلية الحقوق بجامعة فؤاد الأول، وكان هذا حدثا شغل الرأي العام وقتها، حيث كانت أول زوجة وأم تلتحق بالجامعة، والطريف أنها تخرجت في الجامعة بعدما رزقت بأربعة أطفال آخرين.
والمحامية مفيدة عبد الرحمن ولدت في يوم 19 يناير 1914، وتوفيت في يوم 3 سبتمبر 2002، وهي تعد واحدة من أوائل المحاميات الرائدات العرب، وقيل إنها كانت أول محامية تقيد للترافع أمام محاكم النقض، كما كانت أول محامية عربية تترافع أمام المحاكم العسكرية، وترافعت في مئات القضايا التي شغلت الرأي العام، كما عملت مع هيئة الأمم المتحدة، وكانت عضوا في مجلس الشعب خلال الفترة من سنة 1960 إلى سنة 1976، بالإضافة إلى أنها شغلت منصب عضو محلس إدارة بنك كبير.
ورغم ما وصلت إليه المحامية مفيدة عبد الرحمن من مكانة رفيعة وشهرة كبيرة إلا أنها كانت دوما حريصة على التأكيد على إيمانها بأن البيت والأسرة عندها كانا يأتيان دوما في المقام الأول ثم يأتي العمل في المرتبة الثانية، وأن لهما الحق الأول لديها دوما مهما كانت الظروف والأحوال، وكانت ترفع شعار “أنا مع تحرير المرأة وضد تحررها”، وكانت دوما تباهي بأنها تعد لزوجها ملابسه وتمسح له الحذاء بنفسها، حتى وهي محامية وبرلمانية كبيرة.
*من كتاب “عظماء من مصر” الصادر عن دار غراب للنشر والتوزيع
Discussion about this post