يوميات في الحرم(12)
توهان …
بقلم الكاتب الصحفي
سعيد الخولى
فرغنا من رمى الجمرات في اليوم الأول وكان إرهاق الوصول بعد سير قرابة خمسة كيلو مترات مبررا لالتماس بعض الراحة حين لمحنا مصاعد المبنى تعمل وكثيرون يقصدونها اتجاها للهبوط والعودة إلى المخيمات، وكان الجهد قد بلغ مبلغه منا خاصة أن المسير كان طويلا وسط زحام لم ينفض أبدا في أي مرحلة من الطريق، وسألنا الشرطى الواقف لتنظيم ركوب المصعد الضخم عن طريق العودة وهل يؤدى بنا النزول بالمصعد إلى عكس الطريق الذى سلكناه، فأجاب بالإيجاب وليتنا ما سألناه!
غاية ماخرجت به من نتيجة بعد ماجرى معنا أن أولئك الشرطيين محدودو العلم والمعلومات التي من الممكن أن يفيدوا بها من يسألهم، ويبدو أن هناك مهام محددة لهم هي حفظ النظام بصرامة فقط،أما الاستفسار منهم عن معلومة تخص الطريق فلا فائدة ترجى من ذلك،وبعضهم يختصر الطريق على السائل ويتعلل بجهله بالمكان لأنه ليس من أهل مكة أو ضواحي الحرم وأنه من مدينة أخرى بعيدة ووجوده في المناسك هو لفترة الحج فقط،وهذا الذى يوضح جهله بالمكان يفعل خيرا ويسدى معروفا لمن يسأله،وهم الغالبية،لكن النزر اليسير منهم يتطوع بأن يرشد إلى ما لايعرف،وكان الشرطى الذى سألناه عند المصعد لحظنا من هذه النوعية فقد رد بالإيجاب حين سألته بالتحديد هل يوصلنا المصعد إلى طريق العودة المعاكس لطريق الوصول،فتوكلنا على الله وركبنا المصعد في رحلة هبوطه من الدور الثالث إلى الأرضى ومنه إلى طريق العودة إلى مكة،وما كنا نبغى إلا العودة إلى مخيمات منى ،لكن جهلنا بكيفية السؤال وتطوع الشرطى بالإجابة الخطأ كانا سبيلنا لأطول رحلة برية في حياتنا قطعناها سيراعلى الأقدام في طريق العودة.
وفى بداية الطريق دخلت إلى صالون للحلاقة للتحلل من الإحرام وتقاضى الحلاق التونسى منى ثلاثين ريالا لقاء تقصير شعرى وخرجت من عنده بشعر لايختلف كثيرا عما دخلت إليه به! ثم مضينا أنا والحاجة زوجتى نسلك بين عشرات الآلاف من الحجيج طريق العودة الذى ظنناه يوصلنا إلى المخيمات،ومضينا نقطع الدقائق فربع الساعة فنصفها فالساعة كلها وأنا أبحث عن الطريق المعاكس لنا الذى جئنا من خلاله أو عن حجيج مازالوا في طريقهم لرمى الجمرات ،ولكن هيهات ودون جدوى،وظننت حينها اننا لانسلك الطريق الصحيح،حتى فوجئت بنا أسفل كوبرى يعلو الطريق وتحته مفترق طريقين أثارا حيرتى في أي منهما نمضى، ويتجمع أسفله عدة عشرات أو مئات من الحجاج الأفارقة يحاولون الاحتماء قليلا بظل الكوبرى لكن رجال الشرطة كانوا لهم بالمرصاد يطاردونهم ويحثونهم على استكمال المسير وإخلاء الطريق وهم يصرخون فيهم:الطريق ياحاجى!فسألت أحدهم وهو ضابط يحمل نجمتين تعلوان كتفيه :الطريق إلى منى ازاى ياحضرة الضابط يمين أم يسار،فرد بحسم:الزم اليمين اليسار لمن يريد مكة..فشكرته وملت بزوجتى ناحية اليمين،لأفاجأ بحاجة تبدو قريبة من السبعين وبرفقتها أخرى أصغر منها تبدو كما لو كانت ابنتها وهى تقول لى:انت من مصر ياحاج،فأجبتها:أيوة،فقالت برجاء واستعطاف: الله يخليك ماتسيبناش لغاية ما تحل لنا مشكلتنا..كانت لكنتها ولهجتها تبدوان قريبتين إلى أهلنا بمحافظة البحيرة فسألتها:انتى منين من مصر من البحيرة،فأجابت:أيوة ياحاج من دمنهور،فطمأنتها وسألتها:إيه مشكلتك؟أجابت :احنا تايهين ومافيش حد عايز يساعدنا أو يدلنا احنا ساكنين في العزيزية وبعدنا .. قلت للشرطى الذى سألته عن الطريق:لو سمحت شوفو الحاجة دى حد يساعدها ،وطلبت منه أن يعرف بياناتها من خلال السوار البلاستيك الذى ترتديه كما هو مفروض،وكان معها رقم تليفون مسجل عليه قالت إنه يخص ابنها الموجود معها طلبت من الشرطى أن يتطوع بإرسال رسالة عليه تحمل موقع وجودها ليأتى الابن ويصطحبها،وهنا تدخلت زوجتى وقالت لى: خلاص هما حيوصلوها يلا بينا نشوف طريقنا،لكن الحاجة التائهة تشبثت بملابس إحرامى وهى تستحلفنى أن أظل معهما حتى يساعدها رجال الشرطة،فانتحت زوجتى جانبا وعاودت أنا الحديث مع شرطي آخر لأن الأول كان يلبى نداء قائده لتطفيش الحجاج المستلقين على جانبي الطريق،ولم يكن منى سوى رفع صوتى فيما يشبه تأنيب الشرطى لهذه السلبية ولم أتنبه لكونه ضابطا ،وللحق لم يبادلنى عصبية لكن أحد جنوده صعب عليه أن يرفع أحد الحجاج صوته على ضابطه فجاء مسرعا ثائرا لنجدته منى(!) وشخط شخطة في شخصى الضعيف:ايش ياحاجى هي قريبتك؟،قلت له :لازم تكون قريبتى عشان أساعدها،قال لى:مايخصك وسع الطريق ياحاجى،ووجدت أن تبادل العصبية لن يفيد فتوجهت للضابط بكلامى : يعنى ازاى ترجع مكانها ومن يساعدها إذا لم تساعدوها؟،فرد الضابط ليطمئننى بأنهم سيتولون أمر إعادتها للعزيزية،ثم توجهت للجندى الثائر وقلت له مناشدا مشاعره الإنسانية:تخيل أن هذه الحاجة هي أمك أو أختك وتاهت في بلد غريب عنها هل يسعدك أن يتخلى الناس عنها ولايساعدونها،وهل يجب أن يكون احدهم قريبها أويعرفها حتى يساعدها،فخفض صوته وطمأننى كما فعل ضابطه.
وظننت أننى قد أديت ما علىّ فتحركت لنكمل أنا وزوجتى رحلة العودة لتكون المفاجأة فى انتظارى!
Discussion about this post