يوميات فى الحرم
(11) أكبر مظاهرة فى التاريخ
بقلم الكاتب الصحفي
سعيد الخولى
لم يشأ صديقى الذى أحبه أن يعلق معاتبا على منشورى السابق أمس بخصوص الحجاج الصينيين ونظامهم ولحجاج العرب وفوضاهم،وهاتفنى معترضا بدعوى أننى ماكان يجب أن أتناول هذا المظهر الفوضوى للحجاج العرب فى مناسبة كبرى سعيدة مثل موسم الحج،فقلت له وماذا فى هذا من خطأ وأنا أربط ذلك بفوضى نستشعرها جميعا فى بلداننا العربية ونلمسها واضحة فى كثير من مظاهر حياتنا ارتباطا بفوضى ما يفرض علينا ويقدم لنا من إعلام أو فنون أو حتى توعية يضرب معظمها صميم ماتربى عليه معظم أبناء هذا الوطن العربى،وكان طبيعيا أن تكون النتيجة بهذا الشكل فى التجمعات الكبرى لافرق غالبا بين كونها دينية أو اجتماعية أو سياسية.ونبهته إلى الفارق بين مايعانيه عموم الحجاج من طبقة الشعب البسيطة التى تحج من خلال حج القرعة أو الشركات السياحية البسيطة وما يتاح لنوعيات الحجيج الآخرين فى شركات السياحة الكبرى التى لايقدر على تكلفتها سوى فئة قليلة هى تقريبا ذات الفئة التى تحيا فى أبراج عاجية وتجمعات سكانية متميزة فى الخدمات وما يقدم لها فتكون فى ظاهرها أكثر نظاما فى كل مظاهر حياتها.وهى فوارق طبقية هائلة تصنعها سياسات اجتماعية ظالمة يزكيها تمسح أرعن فى أنها أقدار ربانية .
ويبدو أن صديقى لم يقتنع بتفسيرى فقال لى باقتضاب: خلينا مع يوم العيد ورمى الجمرات وما جرى معك أنت وزوجتك فى ذلك اليوم.
وعدت ثانية لذكريات يوم العيد الأول وحكاية رمى الجمرات وما جرى لنا بعدها،وآه مما جرى لنا يومها!
صبيحة العيد وإلى رمى الجمرات..كل طقوس العيد التى درجنا عليها فى مصر وارتبطت بها الأذهان والذكريات تتبخر هناك فى الأراضى المقدسة ولايبقى فى الذهن سوى تلك التفاصيل المرتبطة فقط بما هو مطلوب شرعا دون أى أعراف تتبع هنا أو هناك فى مختلف أنحاء العالم الإسلامى،وكان الموعد مع أكبر طابور لتظاهرة إنسانية وجدنا أنفسنا بين أفرادها تمتد لعدة كيلو مترات هى المسافة مابين مخيمات منى وموضع رمى الجمرات وتسفيه إبليس اللعين بما يستحقه من بنى آدم جميعا ممثلين فى تلك الملايين المتقاطرة كماء يسرى منسابا فى أنبوب ضخم يتأثر آخرهم بحركة أولهم.هكذا وجدت نفسى وزوجتى نتحرك بما يسميه علماء الطبيعة والفيزياء بظاهرة القصور الذاتى تكاد أقدامنا لاتجد مكانا للسير فتحملنا جموع السائرين الساعين من حولنا لفرط الزحام،ويالروعة المنظر ويالهيبة القطار المتحرك وكل الرجال فى ملابس الإحرام وغالبية النساء فى ملابس بيضاء تشبه كثيرا مايرتديه الرجال،رغم شدة التزاحم لاتكاد تلمح ضجرا من أحد الساعين ملبين وهاتفين تجمعهم الصيغة والهدف ويفرقهم انشغال كل منهم بنفسه دون انشغال حتى بمن قد تضايقه حركته أو احتكاكه به.هو الموسم الأعلى كثافة فى الحجيج كما أجمعت كل الإحصاءات والبيانات الصادرة عن وزارة الحج السعودية،وبالتالى كان الأعلى ازدحاما والأشد معاناة فى المناسك التى تجمع الحجيج جميعا فى صعيد واحد مثل رمى الجمرات لليوم الأول.ورغم ذلك يأخذ كل حاج نفسه مشغولا بها فقط مسرعا الخطوات لبلوغ موضع رمى الجمرات،وأخذتنى نفسى وسط هذا المشهد المهيب وأنا أتخيل يوم البعث والبشر يبعثون بأكفانهم لايشغل أحدهم باله بغيره ، وتذكرت قوله تعالى”لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه”،ورغم فارق البداية والمسير والهدف بين الموقفين إلا أن ما يجمع بينهما هو انشغال كل امرئ بنفسه وحاله.
وتمضى المسيرة رغم صعوبتها تحت شمس حامية وأشعة لاهبة يحتمى البعض منها بالمظلات البيضاء ويسير البعض بدونها متحملا ببعض المعاناة أو حتى بكثير منها مستعينا بما يتابعه من يافطات على جانبى المسيرة تشير إلى المسافة المتبقية من الطريق الصعب،وفوق إحداها كتب ” رمى الجمرات. 2 كم”،وحادثت نفسى أصبرها وقرأتها لزوجتى أبشرها بقرب الوصول،ويدق جرس المحمول فى يدى لأانظر على شاشته أتابع من يكون المتصل وبصعوبة إثر الزحام وأشعة الشمس التى تجعل الرؤية صعبة طالعت شاشة المحمول لأجده أحد الأقارب يتصل عبر الفيديو ،وبالطبع لم أحاول الرد فلم يكن الوقت ولا الطقس مناسبين للرد،فتركته حتى سكت.. ومن توغل وسط الجبال إلى أنفاق تقطع هذه الجبال ومشايات كهربائية تداعب أمنيات المتعبين من المسير ثم تصدمهم بأنها معطلة ـ مضت المسيرة الحاشدة تقطع الطريق طوال قرابة الساعتين ولا يدرى أحدنا كم قطعنا من مسافة، بل لايدرى أحدنا كيف قطعنا هذه المسافة ونحن فى حياتنا الطبيعية نتكاسل عن السبر لعدة مئات من الأمتار دون ركوب سياوة أو ميكروباس أو ساحر النقل الشعبى التوكتوك، نعم قطعنا مايزيد على خمسة كيلومترات وسط هذه المعاناة ولم يقل تصميم شاب أو ارادة عجوز عن مواصلة المسير لتصل خطواتنا أخيرا إلى رمى الجمرات، وليقول كل منا فى نفسه إن توافر الحافز كفيل بنسيان كل العقبات، فما بالك والحافز هو رجم إبليس والتشفى فى خزيه مع الموقف العظبم فى عرفات واتصالا بأيام العيد الأربعة..
وأخيرا رجمناه وشعرنا أننا قطعنا الصعب وبات المتبقى للعودة أسهل وأيسر من الذهاب، لكن الأحداث كان لها رأى آخر فى أن أعايش وزوجتى أصعب تجربة منذ تعارفنا، فإلى الغد إن شاء الله لأحكى لكم الحكاية.
Discussion about this post