بقلم الشاعرة والأديبة
إيمان بوغانمي…تونس
مقدمة الرواية..
مازالت مدينة الكاف الجميلة الرائعة تحتفظ بملامحي
الطفوليّة ، عندما كنت أزورها وأنا في عمري الصغيرِ ،
كنت أجد فيها كلّ أترابي ، منهم إبنة عمّتي الوحيدة
التي نحب بعضنا مثل الإخوة فهي وحيدة والديها و أنا كذلك ،
وكنت عندما أكون في منزلي في العاصمة كان المكان
الوحيد الذي أجد فيه راحتي و أختبأ فيه من زحمة
الأناس و السيارات و إمتلاء المدينة هى مكتبتي ،
والتي تعد أحبّ مكانٍ لقلبي التائه في عجعجة العربات
و دخانها الذي يغمّ النفس.. إني أهوى الطبيعة والهدوء
والمكان الوحيد الذي كنت أهواه إلى الآن هو
ولاية الكاف ،. التي أعشقها وأعشق سكانها بكلّ ما فيا من عشق مبرّح ، فهي
مدينة مبنيّة فوق أثارٍ رومانيّة الأصل ،
وفي الفجرِ في تلكَ المدينة يختلف عهد باقي ساعات
النهار ، فهي تحاول أن تسترجع نشاطها حيث الباعة
المتجولين ، والمارّة التي خلت الشوارع منها بإستثناء محطّة القطارِ وتحديداً في معتمدية السرس ،
على الساعة الثالثة و النصف فجراً… ترحب ليليان بموعد جديداً بإنتظارِ حضور
القطارِ للعودة إلى تونس العاصمة ،
وذلك مع والديها ليلى وخالف
إذ كانت متواجدة في عزاء زوج عمّتها
لمدّة أسبوع كامل.
حيث هناك في المحطّة
كانت تلك الجميلة يراودها حنينها للماضي الجميل
لمّا أتت لزفاف إبنة عمّتها وتذكرت الأوقات
الحلوة التي مرّت في رمشة جفن عيناها المبتسمة
و بقي الشريط يمرّ من أمامِها كأنّه فيلم
تقوم بمشاهدته في السينما
ونزلت دمعة حارقة
بالحزن على وجنتيها المحمرّتين ، وهي التائهة بين
ذكريات الماضي الرائعة
ومآسي الحاضر بمرض زوج عمّتها الحنون
و معاناته و قد ختم القدر النذلُ بموته ،
ففراق العزيز صعب للغاية.
ففي الثلاث السنوات
الماضية كان بيننا يغمرنا بحبّه وعطفه ، لا بل الأسبوع الماضي
كان بيننا فإنّه إنسان خلوق
ذو إنسانيّة راقيّة بلا مبالغة في ذلك ،إنّه شخص مثاليُُّ يقدّس عنوان الصمت
و أسس ثغرهُ الجميل الدافئ المبتسم المحبّ
على الدّوام لا يعبر منه عيباً قط…
لقد إنخطف من بيننا في ظرف شهر ونصف كانت أياماً معدودة لكنَّها ثقيلة
عن من كان يحبّه بصدق…
كانت ليليان قمراً شاردة شبه الغزال ،
بين والديها في تلك الجهة حتى أيقضها
أبوها من غفوة الذكريات وقدّم لها قارورة الماء لتشرب فإبتسمت له
إبتسامة في باطنها حزناً عميقاً
و حنيناً لأيام الماضي وفي ظاهرها قوّة
وتقدّماً لمحاربة المستقبل بكل تفاصيله الصّعبة.
سمِعَ جميع الركّاب صافرة القطار فإجتمعوا
جميعهم قريبين من السكّة
حضر القطار بعد الموعد بنصف ساعة
مع تمام الساعة الرابعة صباحاً
وركبوا القطار جميعهم
ولحسن حظِّ الأميرة باربي ليليان
وعائلتها صعدوا في القاطرة التي بها مكيّف لكنّ المؤسف في ذلك أنّهم لم
يجدوا كراسي بجانب بعضهم..
جلست أمّها ليلى في كرسي في المقدمة
من القاطرة حيث وجدت ليليان
مكاناً شاغراً بجانب شخصٍ مجهولٍ لاتعرفه قد وضع في أذنيه سمّاعتين
و مغمض العينين إنّه شخصيّة مجهولة
عبارة ليس موجوداً بجانبها إنَّه يبتعد عن أمّها بمتر
و نصف و بقي أبوها واقفًا بجانبها
لأنّه لم يجد كرسي شاغرًا له
و حتى الكراسي الشاغرة فيها
حقائب المسافرين
و منهم أيضا من إستعمل إثنين
من الكراسي للنوم.
و في الصفّ الذي يقابل ليليان
هناك عجوزًا نائمة نظرت إليها
و إلى كلّ الركّابِ بإستغرابٍ
و من ثمّ خطر شيئاً ما على بالهاوردّدت في نفسها
كم الحياة صغيرة الدّوران في نقطة واحدة كلُّ هذه البشائر الإنسانيّة الموجودة مع بعضها
البعض هناك كلّهم لا يعرفون لا أصل و لا معدن
و لا مكان بعضهم تجمعهم نقطة أولى هي بداية ركوب
القطار و تفصلهم نقطة ثانية ألا وهي نهاية النزول
من القطارِ و كلُّ واحِدا سيسلكُ مسلكه
و ربّما الحياة يوماً ما ستكون لهم أماً
و تجمعهم ثانيةً أو سيحصل العكس
و تكون محطّة النزول هي مكان نهاية المشوار.
في لحضة ما من الزمن إلتفتت ليليان لأبوها
و أخبرته أن يجلس مكانها ربّما يرتاح قليلاً
من الوقوف المتعب فلم يقبل بهذا الإقتراح
مطلقًا ، وردّ عليها كوني مرتاحة سأجدُ مكاناً لا تقلقي
بشأني يا إبنتي ، ظلّت الجميلة إبنته باربي في مكانها ولكنّ قلبها مليء بالوجع على وجه أبوها المنهكِ من التعبِ و لم يقوم بإظهار ذلكَ أمامها ،
ولكنّه قاوم لكي ترتاح أميرته فحنان الأب ليس له مثيل…
نظرت من نافذة القطار تلمح المناظر الطبيعيّة و بقيت تفكرُ شاردة
ومن ثمّ أخرجت دفترها وبدأت تدوّنُ كتاباتها كعادتها ، الأب نعمة في قلب كلّ
فتاة و الأب هو الأكسجين
لكلِّ أنثى في هذه الحياة…
و إن غاب من ركن ما في الحياة يفقدنَّ
كلّ نساء العالم ذوق الطعم الذيذ
و يشعرنَّ حينها بمرارة الأيّام
فبحلاوة الدنيا و جمالها هناك شيئانِ
بحضورهم تصير من حولنا الطيّورتزقزق ، والبلابل تغرّد أناشيد الحب المتبادل و هو حضور الوالدينِ ،
ليس مثله حضورا ، فالأب هوالعين اليمنى و الأم هي العين اليسرى
في هذا الكون و إذا غاب إحداهما
حتماً و بلا منازع ستكتشف
في الوقت ذاته صعوبة الحياة
و إفتقارها الحنان
و الغيث النافع الذي لا ينزل
لكم إلّا برضا ووجود إحداهما ،
فالحب الحقيقي لا ينفع إلّا للوالدين
إنّهم يقدمون حياتهم هباءاً لأجلِ إسعادِ أولادهم و تركهم في مراكز عُلْيَا و حتى إن كانوا يصارعون الموت فتفكيرهم الوحيد في ضناهم
و همهم الكبير أن يتركوا أولادهم في
نعمة ، إذن على أيّ حب آخر تتحدثون فكلله
هراء فكلُّ الحب للأبِّ الذي إشتغلَ و تعب و مات في سبيل رزقه ،
فهو من يستحق كلُّ الهوى ،
وكلُّ العشقِ للأمِّ التي سهرت اليّالي وربّت الأجيال فهي من تستحق أن تكون ملكةً العشق.
إنتهت باربي من الكتابة فأغلقت دفترها ووضعت قلمها ورفعت رأسها
فوجدت العجوز قد إستسلمت
و إستيقظت من نومها
و هُناكَ كرسي شاغرًا بجانبها، أخبرت والدها الذي لم يكن منتبهاً له ففرح و قال لها :
_ إذهبي يا إبنتي و إجلسي هناكَ بجانب المرأة العجوز
و أتركي لي مكانكِ بجانبِ الرجل. >>
أخبرت أباها :
_ أنّ هذا المكان قد راق لها لأجل النافذة
و المناظر الطبيعة و لكن ردّدت له لا بأس يا بطلَ حياتي
سأذهب حالا.. >>
و بعدما غيّرت ليليان مكانها مع أبوها وجدت الألفة
مع تلك العجوز و صارو يتحدّثن و يدردشنّ مع بعضهم البعض حتى إنّها لمحت شاباً وسيماً جالساً في الصف الذي وراء أمّها وينظر إليها نظرات إهتمام فكذّبت
عيناها وإلتفتت للعجوز تحدّثها لاحظت المرأة
الكبيرة إهتمام إبنها بها و أخبرت ليليان
بذلك و لكنَّها لم تخبرها أنّه إبنها فإبتسمت لها الفتاة
و ردّت بكبرياء ساحق عادي فكلّ الرجال هكذا
يريدون أن يقيموا علاقات عابرة
و أنا لا أهتمُّ لوجودهم أصلًا.
_قالت العجوز : يا إبنتي لقد راقت لي ملامحكِ
و تفاصيلكِ و طباعُكِ و ذلك الذي ينظر لكِ
إنّه إبني فما رأيكِ أن تصبحي إبنتي
و زوجة إبني إنّه يشتغلُ في الحكومة
و لديه منزل
و لكني سأقطنُ معه بعد الزواج
و كلُّ إمرأة يخطبها عندما تسمع بهذا الخبر تتركه
لأجلي ما رأيكِ فمنذ قليل أخبرتني أنّكِ لستِ
مرتبطة ؟
_ أخبرتها ليليان أنّ القدر ربّما وضعها في طريقها
لكي تفرح هي و إبنها الوحيد
و أنّ الجنّة تحت أقدام الأمّهات
و من لا يحبّ والدته؟
فأنا سأحب أم زوجي
كما أحببت والدتي التي أنجبتني تماماً
ففرحت العجوز بهذا الخبرِ
و من شدّة سعادتها عانقت ليليان
بحرارة الطقس الصيفي
و هذا إبنها الذي ينظر ما قد يحدث بين أمه
و ليليان التي أحبّها من أوّلِ نظرة و من دون أن يتحدّث إليها فنظرات
عيونها قد أخبرته العديد
و العديد من الحكايات عنها حتى لو لم يكن
يعرفها . نادت العجوز إبنها من كثرة بهجتها
بالخبر المفاجئ لها و أخبرته بصوت خافت
في أذنيه حول ما يجري ففرح الشاب
كثيراً و نظر نظرة حبٍ في عينيها
و أخرج زهرة جوريّة حمراء اللون من حقيبة
كان يحملها على ظهره
و جلس أمامها على ركبتيه
و طلب يديها للزواج مرّة واحدة
فصفّق جميع الموجودين في قاطرة
القطار فرحاً بهما إلّا والدها
و أمّها لم يفهم أحد منهما ما قد يجري
من حولهما فنظرت إلى أبيها خجلة
و إستأذنت منه ، من ثمّ أخذ الأب خالف صِهْرهُ و تحدّث إليه قليلاً
و من ثمّ وافق على خطبتهما مبدئيًّا
إلى أن يتعرّف كلُّ منهما على الآخر
و إذا وقع التفاهم بينهما هناك
حديث آخر فأخذ الشاب رقم هاتف حبيبته.
بعد برهة من الزمن وصل القطار إلى محطّة تونس العاصمه
حيث نزل ركّاب تلك المحطّة
و منهم الأميرة باربي ليليان
و عائلتها فذهبوا لأقربِ مقهى
من باب بحر و هو موجود في شارع الحبيب بورقيبة
و الذي يطلُّ على الشارع الرئيسي إسمه بارناس للإستراحة و تناول كلّ منهم كوب من القهوة…
دخلوا المقهى فإختارت ليليان مكان الجلوس الذي تجلس
فيه كعادتها مع أصدقائها الكتّابِ والشعراء مثلها التي تطلّ نافذته على الشارع الأمامي.
بقي أبي و أمي يتحدثان وأخرجت أنا دفتري
وبقيت أكتب ما يخالج صدري من خواطر
و أترشّف قهوتي و أنا تائهة بين عوالم محابرِ قلمي
وعاندتُ إلهامي نحو كمنجة صعوبة الحياة
و أسس أوتارِ أنغامها فربّما تجعلُ من الماضي
المؤلم يتدفق بين نهر النسيان..
أنا إمرأة محجبة مُسالمة عمري إثنا وعشرون عاماً ذو ذوق رفيع أهوى
الحريّة و الإستقلال و ذو كبرياء رفيع
و من دون كرامتي لا أسوى شيئاً…
إني أهوى تفاصيلُ الليل والهدوء ،
أجمل شيء في الحياة التسامح و جبر خواطر الغير
فمن جبر خاطر شخص ما
جبر الله خاطره…
فالحياة مهما قست على أصحابها قسوة
الثعلب الماكرِ على الديكِ المغفّلِ ،
فهي لا تنفعنا بشيء إلّا إذا رحم ربي عباده..
فالحياة مثل القطار تماماً فهي لا تنتظرأحداً من قافلة النّاس فيجب علينا
أن لا نجعلها تتركنا في محطّة الإنتظارِ
إمّا تائهين في غفوة من غدرِ الماضي الأليم ، أو تجعلنا ننتظر المستقبل بكلِّ
لهفة منّا و يمكن أيضاً أن تجعلنا نعيش مرّة واحدة
فيها مع الذئابِ الشرسة التي وثقنا في وجودهم الطيّب بيننا لكنّهم هيهات
فالذئب لا يؤتمن بصداقته
و لا حتى مجاورته.
ها قد وضعت ليليان قلمها وسط الدفترِ
و أغلقته و من ثمّ قصدت ساحة باب عليوة
رفقة والديها لكي يقتنيانِ العربة الجماعيّة
ليكونوا في منطقة المحمدية قبلَ حلولِ القيلولة…
تسكن ليليان وحيدة والديها في هذه المعتمديّة
الجميلة الرائعة بسكّانها المتضامنون مع بعضهم البعض ..
معتمدية المحمدية من ولاية بن عروس تقع مجاورة
لمعتمدية فوشانة.
و مؤخّرا إمتلأت بكثرة سكانها لأنّ موقعها إستراتيجي
و قريبة جداً من العاصمة تفصل بينها و بين الذهاب
إلى تونس العاصمة بالمواصلات إلى حدود الربع ساعة لا أكثر ولا أقل..
يقولون أنّ تلك المدينة فيها أناس سلبيين يخلقون
المشاكلَ إستيقظت الأميرة باربي ليليان على هذا
الحديث و هي قد نامت في عربة النقل الجماعي
مع والديها وهي في طريق العودة إلى منزلها فطبعاً
لم يرق لها هذا الكلام مطلقاً و أبداً و قاطعت من
كان يتحدّث عن مدينتها الأمِّ و أخبرته أنّه ليس
إبن المحمدية و عذراً منك لو كنت منها فلم تتجرّأ على
الحديث عنها بهذا الشكلِ السيِّء..
فكلنا نعلم أنّ مدينتنا هي مدينة تاريخية عظيمة
لا تستحق التعريف بها أبدا فمن لم يعرف مميِّزاتها
و حبّ أناسها لبعضهم البعض و تعاونهم الكبير
في ما بينهم كأنّه لم يخلق للحياة أبداً
ولم يعيش فيها مطلقًا لذا يا سيدي الكريم
لا تنطق بكلام لا تحقه مجدّدًا.
إنتهت الجميلة من كلامها الرائع التي نطقت به كالشهدِ
بين الحاضرين فرنّ هاتفها المحمولِ
و يا ترى من قد سيكونُ؟
إنّه خطيبها إبن العجوزِ إتّصل لكي يطمئن عنها
وصلت إلى بيتها أو مازالت بالخارج
و أخبرها أيضاً أن تأخذ له موعداً قريباً مع والدها ربّما
يأتي ويتعرّف عن عائلتها القريبة والموسّعة في منزلهم
و بذلك يتمّ تحديد خطوبتهم في القريب العاجلِ
إبتسمت الفتاة إبتسامة حب
و فرحا بهذا الخبر السعيدِ و بعدما أقفلت الخطّ أخبرت
والديها بذلك.
كلُّ شخص فينا يحلم بأن يتعرّف على أماكن لا يعرفها
و يسافر ويكتشف كلّ بقاع العالم
و لكن يبقى ركن المكان الذي كبرنا فيه وحلمنا فيه و نحن صغاراً حتى و لوجرحتنا الأيام والحياة فيه
لا نريد الإستغناء عنه
و حتى إذا خرجنا منه لبرهة من الأيام إلى أروع قمة
في كل أرجاء العالم فلن نتغيّر و ترانا عدنا له من جديد
مبتهجينَ مسرورين بالعودة… الأيام التي نحلم فيها
و نحن صغاراً تبقى دائماً ذكرى عابرة في عقولنا
و نحن كبار ..
Discussion about this post