قصة قصيرة
مأتم الورود
بقلم/ ساسي كلثوم لينا. الجزائر
الدنيا ربيع ، وانسام الطبيعة تتضوع بشذى الاحراش ، واشجار الزيتون التي تتشبث بمنحدر، ارتسمت عليه طريق شبه مسفلتة ، تنتهي إلى قرية راحت تقبع في قمة المرتفع بتيه ودلال .كانت القرية تطل على سمفونية مبهجة خلابة ، لطالما افتتنت بها هديل وسحرتها هاته المشاهد وهي تقف خلف النافذة ، تغرق في تفاصليها وتسخي لاصواتها ، كما تنغمس بكل احاسيسها ، فتتحول جزء من هاته الفسيفساء التي صنعتها الطبيعة.
كانت هديل مفعمة بقيم الانسانية ، سباقة لمد يدها للآخرين، دون أن تطلب مقابلا ، يعتريها الخجل كطوفان لا يترك لها هامشا للمناورة، فتراها تستجيب دون أن تدري أنها بين مخالب الاستغلال فتستكين للطلبات ، وتذعن للرغبات ، فباتت مجردة من بواعث المبادرة واثبات الشخصية .
كان زخات المطر ، تغسل زجاج النافذة ، وتحدث عليه وقعا خفيفا ، يؤنس وحدتها بين جدران كتمت كوامنها ، و خنقت تأوهاتها، فتمد يدها لتفتح دفة النافذة ، فتصفعها رياح الشمال الباردة ، فتمتص دموعا ظلت دفينة بين الجدران المتعبة.
كانت تصرخ في اعماقها :
أي قدر هذا الذي جعلني مسلوبة الارادة ؟ ويا له من زمن اختزل انكساراته على نفسي المتعبة ،بكل هذا الوهن الذي وسم حياتي بالخيبات والانزلاق نحو التردي.
حتى انت يا أمي ، لم تكوني سندي وعكازي عند عثراتي ..ولا أنت يا أبي اشفقت على حالي ،بل تمارس سلطة الابوة بتماديك في اذلالي ..وتتلفع عباءة الذكورة بانتشاء على انين عذباتي…
أي فلتة أنا في هذا الزمن الموبوء ، الذي لم يمنحني فرصة اختيار لون فستاني وشذى عطري ، حتى ملابسي الداخلية .
كانت هديل مشتلة خصبة للذكورة الموغلة في التطرف لا تستطيع إرتداء تنورة مثل البنات ولا تملك دمية ولا تستطيع حتى أن تشارك ابناء قريتها في اللعب ، ليت الأمر وقف على عتبة هذا القمع النفسي والمعنوي ، بل بات جسدها الهش الهزيل مسرحا للضرب المبرح ، لا تخلو منه الكدمات ، و تلقي صنوفا من التفنن في الاذاء الجسدي، هذا الجسد الذي دأب من سن مبكرة على الاشغال الشاقة ، والاعمال المنزلية .
كانت الاقدار تخبيء امرا جللا مع قدوم العيد ، وتستعجل امرا يهز اساسات هذا البيت ، الذي كان يفتقر إلى اساسات الحب والمودة والتكافل بين افراده .كالعادة تلتزم هديل بكل مشاغل البيت ومتطلباته ،اما دعاء فيمكن لها أن تصول وتجول اينما ارادت وشاءت ، وعلى ما جرت عليه العادة رافقت دعاء الأم إلى السوق للتبضع واقتناء مستلزمات العيد ، لكن ثمة ما يزلزل كيان الأسرة ، طرق سريع متواصل على الباب ، تهرع اليه هديل مندفعة بكتلة جسدها نحوه ، وهي تستغرب وتتوجس في الوقت نفسه .
الجار عزوز يقف على عتبة الباب بوجه شاحب ومزاج معكر ونظرات فيهما من الألم والدهشة ليقول : هديل امك هنا ، ؟
لا عمي عزوز .خير إن شاء الله ؟
فيردف : ادعوك للامتثال لارادة الله ،، فالبقاء له ، عظم الله اجركم والدك توفاه الله بعد سقوطه من علو شاهق .
تشعر هديل بدوار عنيف ، تعلو عينيها غمامة بيضاء تفقدها رؤية ما حولها ، فتنهار ارضا .
كانت فاجعة الفقد كبيرة ، والفراغ الذي يتركه الاب أكبر ، رغم جبروته ، وتسلطه ، كانت تفاصيل الجنازة اقرب إلى كابوس اغرق هديل في دوامة من التيه ،والشعور بالفراغ والخواء ، ظلت واجمة تحترف الصمت ، ولا تستطيع البكاء لتنفس عن اختناق جعل عيناها تغوران في محجريهماويتحول بريقهما إلى ذبول وفتور.
نحتت السنوات على هديل قناعات اخرى فقررت أن تواجه مخاوفها وتحقق أهدافها وفي نفس الوقت كانت منتهى ما تريده أن تجد الطرف الآخر ، الذي ينسيها في سنوات الجمر ، وتأوي تحت جناحه يشعرها بالأمان ويتخطى بها الصعاب والعقبات نحو ملاذات الانعتاق من الماضي المؤلم ، بيدا أن اختيارها اوقعها في نسخة لا تختلف عن ابيها ، مما سيجعلها تجتر الماضي في ثغر الحاضر والمستقبل، لم يعمر هذا النسق طويلا لتضعها الصدفة مع لميس دون مقدمات ، فكانت القارب الذي يمضي بها الى ضفة الخلاص وتنتشلها من زمن التيه والخذلان فكانت تضعها امام خيارات أخرى تجعلها تنظر إلى الحياة بعين التفاؤل ، تأخذها لمحل الملابس وترتاد بها أفخم المطاعم ،وتغير زاوية انعطافها كما تغيرت نظرة خطيبها فجأة ، فلم ير فيها تلك الخانعة الخاضعة لارادته ، المستجيبة بلا تفكير لتجده ذات صباح يقول :
هديل يمكنك أن تنسي امري لم تعد لي رغبة في الارتباط بك اكتشفت انه تغير فيك الكثير ولم يعد بإمكاني أن ارى فيك تلك الهادئة المتواضعة.
ارتسمت ابتسامة على شفتيها وهي تحدق في عينيه :
حسنا لك ما تريد ، فلم يعد لك أن تحتفظ بهذا الشئ ، الذي كنت تريده على مزاجك ومقاسك تختزلني في وسيلة كمتاع البيت ، في الوقت الذي تريدني أن اتوقف عن التفكير والحلم و ألغي ذاتي لتنصهر في ذاتك أن تكون ولا أكون ..
لتردف تبا لهذا ..حريتي اغلى من اغلال الذهب.
Discussion about this post