بقلم الكاتب الصحفي
محمد عبد العزيز
جلست صامتة شاردة وحولها النسوة من الأقارب والجيران يترحمن على الشهيد الغالي وينصحنها بالصبر..
تبا لهؤلاء النسوة لا يتوقفن عن الثرثرة حتى في الساعات المهيبة، فأي صبر يتحدثن عنه وينصحنها به ! وهل من بينهن من تعرف الصبر مثلها، لقد عاشت عمرها تقتات عليه حتى ألفت مرارته واعتادت على وخز أشواكه. لقد طلقت الدنيا وهجرت نعيمها منذ أن رحل زوجها وهي لم تزل بنت العشرين ربيعا تاركا لها ثلاثة أطفال ضعاف كزغب القطا.
صمتها وذهولها يخفيان ما بداخلها من صراخ جرح حنجرتها وقطع أحبال صوتها
عواصف ورياح تعربد برأسها فتنتزع سكينتها وأمنها.. شريط حياتها الدامي يمر أمام عينيها بكل ما فيه من بؤس وشقاء، تتذكر يوم جاءوا بزوجها عامل البناء مضرجا في دمائه بعد سقوطه بحمله من على السقالة بعد أن زلت قدمه واختل توازنه. ساعتها كانت تصرخ بكل ذرة من كيانها.. كانت تصرخ حزنا على زوجها وخوفا ورعبا مما تحمله لها الأيام القادمة
شريط الذكريات يمر بمشاهده الأليمة، تتذكر أنها وبعد أن شيعت زوجها وعادت لبيتها قامت بقص شعر رأسها وتحزمت بحزام زوجها وهجرت أنوثتها لتتفرغ للعمل والإنفاق على نفسها وصغارها لم تترك عملا ولا مهنة ولا بابا للرزق آلا طرقته.. كانت تتمنى لو أن الأيام تمر سريعا فيكبر الأطفال ويصبحوا شبانا يعتمدون على أنفسهم إذا ما خانتها العافية أو عاجلها الأجل.
تسربت سنوات العمر ومعها ما تبقى من عزم وعافية مثلما يتسرب الماء من بين أصابع اليد.
كبرت أفراخها ونمت وصارت ديوكا تتباهى بريشها الطويل وصوتها الجميل، ولكن الحياة أبت أن تمنحها فرصة لالتقاط الأنفاس وتضميد الجراح فبالأمس فقط جاءوها بولدها الأوسط وفلذة كبدها مضرجا في دمائه وملفوفا بعلم الوطن يحمله رفاقه من أبناء الفقراء الذين اختصهم الوطن بشرف دفع ضريبة الدم دون سواهم.
(من مجموعتي القصصية فيض الغمام)
Discussion about this post