بقلم الكاتب الصحفي
محمد عبد العزيز
(عابر سبيل).. إحدى قصص مجموعتي فيض الغيام.
كعادته في زمن اليسر والبحبوحة لم تتغير طباعه، فرغم الضنك والفلس الذى ضرب حياته إلا أنه ضرب بنصيحة زوجته عرض الحائط وقام بفرش الحصير في الشارع أمام بيته متخذا من جدار الحائط مسندا لظهره المكدود من تعب العمل في الحقول طيلة النهار.. رص القوالح على المنقد وأشعل النار ثم عاير كوبا من الماء وسكبه في كنكة سوداء ذات يد صنعت من سلك معدني مجدول.
فتح برطمان الشاي وأفرغ ما تبقى فيه وهو يمني نفسه بكوب شأى يظبط دماغه التي خرمتها الشمس طيلة النهار.
هبت نسمات ما بعد العصاري فأنعشت روحه كما أنعشت نار الموقد أمامه فوضع الكنكه على الموقد بجوار النار ثم أمسك برطمان السكر ونظر إليه فرأى كل ما فيه لا يكفي كوب الشاي فأمسك بالملعقة وبدأ يحك بقايا السكر الملتصق بجوانب البرطمان الزجاجي فتحصل على ملعقة سكر أخرى أضافها للأولى وهو يردد: كده تمام.. هتبقى كوباية شاي مظبوطة.
دقائق قليلة وفارت الكنكه فسحبها بعيدا عن النار وتركها تغلي على مهل فتصاعد البخار محملا بعبق الشاي ونكهته فأنعشت دماغه.
هم بإفراغ كل ما في الكنكه في كوباية الشاي وإذ به يسمع صوتا وقورا يلقي عليه السلام فرفع بصره عن الكنكه إلى مصدر الصوت فوجد أمامه رجلا وقورا تبدو عليه المهابة يمتطي ظهر حمار عظيم الهيئة مثل حصان أصيل وتبدو على محياه ما يبدو على القادم من سفر بعيد.
رد التحية بأحسن منها وأتبعها بكلمات الترحيب بالرجل فنزل الغريب من على ظهر حماره وربطه في حديد الشباك المواجه ثم جلس إلى جواره على الحصير.
شعر بالحرج الشديد بينما كان لسانه يرحب بالغريب، وتمنى في هذه اللحظة لو أنه استمع لنصيحة زوجته ولم يفرش الحصير ويجلس أمام باب الدار فيراه الرائح والغادي.
شعر بالعجز والضيق ولعن العوز والفاقة التي تميت النفس وتقهر الرجال وتكسر فيهم الكرامة والكبرياء.
نظر للغريب بينما كان ينادى على أهل بيته بصوت جهوري حاسم : جهزوا غدا لشيخ العرب يا أولاد وهو يتمنى لو أن الأرض تنشق وتبلعه فهو يعلم جيدا أن داره ليس بها ما يقدم لضيف غريب.
زاغ بصره ودارت رأسه واحتبست الكلمات في حلقه فلم تخرج واضحة عندما عاود الترحيب بالغريب وفي تلك اللحظة التي مرت عليه كدهر طويل قفز ولده الصغير ابن الثمانية أعوام من داخل الدار ووقف أمامه مستفسرا ماذا يريد.
هم بالحديث مع ولده مكررا ما سبق وطلبه، ولكن الغريب استوقفه بإشارة حاسمة من يده ثم نادى على الصبي الصغير فالتفت إليه الصغير وهو يدنو منه
مسح على رأسه وهو يقول: اسمك ايه يا حبيبي ؟
فأجاب الصبى: أسمي كريم عبد الغنى
وأنا اسمي عبد الكريم، ثم بسط كفه بالسلام على الغلام وقال:
انت في المدرسة يا كريم؟
فأجاب الغلام:
نعم بالصف الثالث.
عال عال.. باين عليك شاطر ونبيه.
أنا الأول على الفصل يا عمي عبد الكريم.
تعرف يا أبو الكرم تجيب لنا جوزه ؟
رد الصبى: أعرف.. جارنا عم علي عنده جوزه
فأخرج الغريب حافظة نقود جلديه وفتحها وأخرج منها جنيها ورقيا جديدا حده يذبح الجمل وقال للصغير:
تعرف تروح الدكان تجيب باكو معسل بخمسة ابيض وورقة شاي بخمسة ابيض وكيلو سكر بست قروش.. يبقى الحسبة كام
فرد الصغير أصابعه وبدأ يحسب بصوت مسموع خمسة أبيض معسل وخمسة ابيض شاي يبقوا خمسة صاغ، وستة سكر يبقوا حداشر قرش
فقال الغريب جدع يا كريم.. يتبقى معاك من الجنيه كام يا بطل.
فتمهل الصبى وقال.. نشيل من الجنيه بريزه يفضل تسعين قرش ونرجع نشيل من التسعين كمان واحد يفضل تسعة وتمانين قرش
فضرب الغريب برفق على ظهر الصبى قائلا:
جدع يا بطل.. هم بقى على الدكان وريني شطارتك، فانطلق الصبى يعدو مسرعا إلى الدكان قابضا على الجنيه في يده ومخلفا وراءه سحابة من الغبار.
أراد عبد الغنى أن يتكلم فأشار إليه الغريب فتوقف الكلام فى حلقه ولكن دمعة ساخنة تدحرجت من بين جفونه لم يستطع منعها فنهض وسار إلى بيت جاره على فأحضر الجوزه وبدأ في تجهيزها وضبط الميه بداخلها بعد أن سلك الغابة والبخش في انتظار وصول الولد ولما فرغ عبد الغني من ضبط ماء الجوزه كان الولد قد رجع حاملا السكر والشاي والمعسل وناولهم للغريب الذي وضعهم بدوره أمام عبد الكريم المنهمك في إضافة بعض القوالح على المنقد ليزيد النار ثم أخرج الصبى من جيبه المبلغ المتبقي من الجنيه ومد به يده للغريب قائلا:
هذا هو المبلغ المتبقي.
تسعة وتمانين قرشا بالتمام.
قال الغريب للغلام:
قُل لي يا كريم
نعم يا عمي
انت عايز تكون ايه لما تكبر ؟
فرد الغلام على الفور ودون تردد
أنا عايز أكون دكتور.
شكلك هتبقى دكتور شاطر ونبيه وعلشان كده يا حضرة الدكتور أنا بحجز دوري عندك من دلوقتي علشان تبقى تكشف على عمك عبد الكريم، ثم ناوله مبلغ التسعة وثمانون قرشا المتبقية من الجنيه وهو يقول للصبى: روح يا دكتور وسجل اسم عمك عبد الكريم أول كشف ثم تركهم وانصرف بعد أن شرب الشاي وحجرين معسل
Discussion about this post