بقلم الكاتب والأديب
دكتور محمد الدليمي
الجزء الأول : المعنى
القصيدة العربية بين اللفظ والمعنى :
قال الإمام الجاحظ ( 159 هـ : 255 هـ ) إمام النقد الأدبي العربي.
كان أول من استخدم لفظ ( الصورة ) في حديثه عن الشعر ، حينما قال: ( والمعاني مطروحة في الطريق، يعرفها العجميّ
والعربي، والقرويّ والبدوي، وإنّما الشأن في إقامة الوزن، وتخيّر اللّفظ، وسهولة المخرج ، وكثرة الماء ، وفي صحّة الّطبع، وجودة السّبك . فإنّما الشعر صناعة، وضرب من النَّسج، وجنس من التصوير ).
عبدالقاهر الجرجاني
( 400 هـ : 471 هـ ) ليتحدث عن الصورة الشعرية بهذا
الوضوح الجلي حينما يقول : ( إنما الكلام أصوات محلّها من
الأسماع محّل النواظر من الأبصار ، وأنت قد ترى الصورة
تستكمل شرائط الحسن ، وتستوفي أوصاف الكمال ، وتذهب في
الأنفس كلّ مذهب ، وتقف من التّمام بكلّ طريق ، ثم تجد أخرى
دونها في انتظام المحاسن ، والتئام الخلقة ، وتناصف الأجزاء ،
وتقابل الأقسام ، وهي أحظى بالحلاوة ، وأدنى إلى القبول ،
وأعلق بالنّفس ، وأسرع ممازجة للقلب ، ثم لا تعلم – وإن
قايست واعتبرت ، ونظرت وفكّرت – لهذه المزيّة سببا ، ولما
خصّت به مقتضى ) .
إن البحث في العربية يجب إن يرتكز على علم اللفظ والمعنى؛ وبما إن ألفاظ العربية تنقسم إلى ( كلمات ، وألفاظ ، وألفاظ معاني ، والمعنى الحقيقي، ومعنى المعنى ) وهذا ما قصده الإمام الجاحظ في مقولته المعاني مطروحة في الطريق …، وفندها بشكل عظيم الإمام الجرجاني ، وأزيد على ذلك المفهوم ما وقع عليه فكري بإدلة لغوية بحته وكل ما نقوله هو تفنيد لمقولات قديمة لا يسع هذه المقالة عرضها ولكنني أكتفي بذكر ما يروي فكر الباحث المتلقي ؛ جميع أبحاث العربية أعتمدت على مقولات قديمة وكل باحث رأها من جهة فكرية خاصه به فاختلفت الأراء المعتمدة بصحتها المنهجية، وأذكر مقولة الجاحظ عن المعاني فيقول ” المعاني مطروحة في الطريق يعرفها العجمي والعربي والقروي والبدوي ” أذكر هنا سبب ذكر المعاني واسبقها على الألفاظ لأن كل اللغات الأعجمية تتكون من ألفاظ معاني دون كلمات أو ألفاظ أو معنى حقيقي وهذا ما يجعل اللغات الأعجمية أقل شأنا من لغتنا العظيمة، وهذا الأمر يظهر جليا من خلال تفسير آيات الذكر الحكيم أو حديث نبوي شريف أو قول بليغ إلى باقي اللغات بعد الترجمة وهنا سنحتاج إلى الكثير من الألفاظ الأعجمية لنصل لمعناها البلاغي أما آيات التي يذكر فيها الكلمات فلن نصل إلى معناها بالبته لنقص اللغات الأعجمية للألفاظ ، والمعنى الحقيقي وهذا ما جعلها عاجزة أمام بلاغة لغتنا العظيمة، وجميع اللغات الأعجمية هي عبارة عن ألفاظ معاني تتحدث بها.
ما المقصود بالمعاني، هل هي معاني الكلمات؛ فلا يمكن معرفة معنى من دون ذكر اللفظ ، فالألفاظ اسبق إلى الأذهان من معانيها وإلا ذلك الذي فهمه الإنسان هو الوصف فأنا أصف لوحة كتبت بالكتابة اليوغليفية ولكني لا أستطيع قراءتها إلا إذا عرفت ألفاظها ومن ثم أفهم معانيها ، ومثل هذا كثير فلو أتينا برجل من قبل أن يصنع التلفزيون وقلنا له ما هذا سيقوم بوصفه ولا يستطيع ذكر لفظه وعندما نطلب منه أن يسميه وله دراية بالمعجم العربي سيقول إنه المرايا ومن ثم يوافق فكره بالصورة المرئية ، وهنا فهم معناها بعد ذكر لفظها ؛ فالألفاظ اسبق من المعاني إلى الأذهان والوصف اسبق إلى أذهاننا من معانيها فتنشأ الصورة الفكرية التي تبعثها الكلمات البلاغية بأجمل ما توحيها من وصف، والوصف يختلف درجات من حيث البلاغة وألفاظها إلى ألفاظ الفصيح من دون بلاغة فلكل منهما درجات في الصورة الفكرية التي تنشأها تلك الألفاظ . ومن هنا جاء تقسيم ألفاظ اللغة إلى ( كلمات، وألفاظ ، وألفاظ معاني ، ومعنى حقيقي ، ومعنى المعنى ) ، ونفسر هنا الكلمات : وهي عادة ما تتكون من لفظين مقترنين ليكمل أحدهما الأخر في معناه، وهو معنى جامد ( واضح )ليس فيه أي معنى للتأويل أو القراءة ، فنقول : الحمدلله معناها الحقيقي هو الأكتفاء بالله ومن ألفاظها ( الله سبحانه، الايمان بالله، الايمان بالملائكة ، الايمان بالرسل ، الايمان بالكتب، الايمان بالقدر خيره وشره ) وهذه الألفاظ يمكن لنا نخرج منها ألفاظ المعاني، لنفهم معنى الحمدلله، فلو قلت لإنسان إني أكتفيت بالله لسألك بأي شيء أكتفيت ستجيبه بتلك الألفاظ التي ذكرناها اعلاه؛ وإذا أردت فهم معنى الحمد لله في العمل سنذكر ألفاظ معانيها ( اسلام الوجه لله ، الشهادة، الصلاة ، الزكاة ،الصيام ، الحج )، وهذه المعاني لا يجوز أن تخرج عن معنى المعنى الحقيقي هو الأكتفاء بالله.
ألفاظ المعاني : وهي الألفاظ التي يتبدل معناها حسب السياق الذي تتخذه وبها تكمن بلاغة الكلام وبها يعرف الإنسان بثقافته وخبرته ببلاغة لغته ولسانه، وأغلب لغتنا ألفاظ معاني وأعظمها شأنا هي التي تكون الأولى في مقصود الدلالة فمثلا نحن نريد الأكتفاء فنأتي بلفظ الصلاة ولا يجوز لنا ذكر الشكر هنا أو الثناء، لأننا سنبتعد عن البلاغة إلى المعاني التي تظهر لنا الصورة بأقل مستوى من ذكر لفظ معناها وهي الصلاة ، أو الزكاة أو ، أو ، فالبلاغة هي من حملها للفظ أكثر ألفاظا وأكثرها معاني ، وكلما نزلنا درجة أقلنا من بلاغة السياق وجعلنا الصورة أقل شأنا؛ لغتنا ألفاظها الأولية ( ألفاظ اللغة ) التي لها الدور في بناء ألفاظ المعاني ونشأتها، فالايمان بالكتاب أو كتب الله سبحانه لا يمكن فهمه ألا إذا عبرنا عنها بألفاظ المعاني؛ فبلاغة السياق أو الشاعر هي فطنته في اختيار ألفاظ المعاني لمقصودها، والحذر الأكيد من وقوع اختيار ألفاظ لألفاظ المعاني أو معانيها فيسقط هنا الناثر أو الشاعر في تداخل صوره أو مقصوده فتظهر الضجر ممن يقرأ أو ينتقد تلك القطعة الأدبية؛ فالخبرة في المعجم مطلوبة فرض عين ، وثقافة الشاعر في الأطلاع الأدبي والأجتماعي بنفس المكانة.
مؤلف القطعة الأدبية سواء نثرا أم شعرا، سيحتاج المعرفة الحقيقية للمعنى الحقيقي ومن ثم ألفاظ المعاني فلابد من أدراك تفاصيلها أوتراكيبها ، فهي تعطي الجمال الأدبي للقطعة . أما معنى المعنى المتمثل بالصورة الكلية للقطعة الأدبية ، فهو يرعى الإعادة أو يظهر الصورة بأفضل حال فلا يمكن تجميع صور القطعة الأدبية من دون فهم معنى المعنى فهو يعتني بالمعنى الظاهر لكل سياق فيختار المؤلف معنى لكل سياق و يطابقه مع ألفاظ المعاني فيؤلف من خلال ألفاظ المعاني قطعة أدبية خاتمة لما سبق، ليوافق المضمون مع الخاتمة .
وبعد هذا الاستعراض الموجز للقطعة الأدبية البلاغية، سنتعرف على المنهج الاستراتيجي للفظ والمعنى في القطعة الأدبية ؛ فهي دائما تتكون من ثلاث انواع أو اجتماعهم فيها أما ألألفاظ التي تحمل الدهشة نحو قصيدة لعنترة بن شداد:
ذنبي لعبلة ذنب غير مغتفر
لما تبلج صبح الشيب في شعري
رمت عبيلة قلبي من لواحظها
بكل سهم غريق النزع في الحور
فاعجب لهن سهاما غير طائشة
من الجفون بلا قوس لا وتر
الدهشة تكون لألفاظ اللغة التي خرجت من الكلمة ، وهذه الألفاظ محكمة أي قوية الصدع في النفس ، عميقة المعنى حتى إذا فككنا البيت بطريقة لغوية ودرسنا ألفاظها لأشبعتنا رؤيا بمعانيها، بل تأخذنا باتجاهات شتى ويبقى اللفظ صامد في معناه، وقد عرف الشاعر العربي بفطنته بألفاظ اللغة ومقاصدها ، فنحن أمام مقاصد شتى في لغة العرب نستطيع أن نأخذ المقصود بألفاظ قليلة ومحددة كما في أبيات القصيدة أعلاه وهو يتغزل بأنوثة حبيبته، وحبها قد اشعل الرأس شيبا، ويقول امرأ القيس في المعنى :
وما ذرفت عيناك إلا لتقدح
بسهميك في اعشار قلب مقتل
انظر للعملاقين ولبنية بيت القصيد ولا أريد الخروج لشعاب دراسة فن القصيدة، ومن هنا اختيار الألفاظ لا يكون لمعناه الظاهر وإنما اختيارها من خلال مقاصد الألفاظ، فقولك: الرحمن الرحيم فأنت قصدت الغفار والغافر ، فلأول في السماء والثاني في الأرض وهذا يستخدم في حسن أدب الدعاء، ولهن من الألفاظ الكثير ومن الألفاظ المعاني ، وأما معناهن الحقيقي فهو ( الله سبحانه ).
النوع الثاني معاني الوصف، واخترت هذه الأبيات الراقية المعنى في وصف الأماكن ومناسك الحج:
ولَمَّا قَضَينا مِنْ مِنى كُلَّ حاجةٍ
ومَسَّح بالأركان مَنْ هو ماسحُ*
وشُدَّت على دُهْم المهَارى رِحالُنا
ولم يَنْظُر الغادى الذىِ هو رائحُ
أخذْنا بأطراف الأحاديث بَيْنَنا
وسَالَتْ بأعناق المطىِّ الأباطحُ
الوصف يوجد في ألفاظ اللغة، وهو يحتاج لعبقرية الشاعر وهنا في هذه الأبيات برع الشاعر في وصف مناسك الحج ولا يوجد طعم اللذة إلا من اشتاق وتحسس تلك الرحلة العظيمة، والأنفاس العبقة، واحاديثها التي تبعث الطمأنينة في النفس ، وموقفها في الخشوع بين يدي الله سبحانه في اعز أيامه واعظمها أجرا، فأبدع الشاعر بوصفه لتلك المشاعر العظيمة والأماكن الجليلة، أما من الناحية النقدية؛ فالناقد الذي فهم الشعر صورة، والصورة الجزئية أو المكتملة فهو ناقد ليس له معرفة بألفاظ اللغة وتراكيبها الفنية وأنواعها النسيجية؛ اللغة العربية عظيمة الشأن فإذا صلح اختيار ألفاظها صلح فنها، ومن هنا أبحث عن موضوعاتها حتى تجد ضالتك قبل الحكم عليها.
النوع الثالث معاني بلاغية ( علم البيان والبديع ) ، وهذا النوع شواهده كثيرة ومعروفة لدى الجميع وهو ما يستخدم ألفاظ المعاني في اخراج الصورة الأدبية
وإذا المنية أنشبت أظفارها
ألقت كل تميمة لا تنفع
وبعد هذا الأستعراض الموجز ادعو الله سبحانه أن ينفع به العباد وأن يجعله صدقة جارية في الحياة الدنيا .
الباحث محمد الدليمي
Discussion about this post