يوميات فى الحرم(٣)
فول مدمس فى الفضاء
بقلم الكاتب الصحفي … سعيد الخولى
كان كل مالفت نظرى وأنا اخطو خطوتى الأولى من الأنبوب الضخم إلى داخل الطائرة لأول مرة فى حياتى ذلك العدد الضخم من المقاعد الذى انقسم طوليا إلى صفين بجوار الشبابيك يمينا ويسارا وقطاع ثالث يضم أغلب المقاعد يتوسط الصفين وممرات ضيقة بين الصفوف الثلاثة، وانتهى وفود الركاب إلى داخل الطيارة لأجد عددا غير قليل من المقاعد خاوية بلا مسافرين، وتعجبت للتعنت فى قطع التذكرة الإجبارى وغلو ثمنها وكأن الطائرة كانت فى انتظار مجموعتنا فقط لتملأها، بل تفاوت سعر التذاكر بيننا نحن أصحاب المشكلة وكنت آخر من لحق بتذكرتين اكتشفت بعدها أننى دفعت ثمنا أعلى من رفاق الرحلة! وهو سلوك لايليق بالشركة المحتكرة، لكننى بعد ذلك وجدته سلوكا شبه عام فى التعامل مع الحجاج من جهات التعامل الخاصة هناك.
كنت أتمنى بالطبع أن أكون بجوار النافذة أطالع من خلالها مصر من الفضاء وتضاريسها ومعالمها انطلاقا من المطار وعبر الرحلة وصولا إلى جدة لكن خابت أمنيتى بجلوسى فى القطاع الأوسط بعيدا عن النافذة مكتفيا بمتابعة خريطة المسار المثبتة فى ظهر المقعد الأمامى، وأنا بين الفرحة بالركوب واللحاق بآخر فرصة للسفر والتوتر والفضول مع طيرانى الأول فى حياتى، وللحق لم تترك الرحلة القصيرة زمنيا مجالا لإشباع فضول أو زيادة توتر وقلق مع توديع الأهل والأبناء والأحفاد، ولا حتى متابعة أى مادة للتسلية متاحة فى شاشة المقعد، فالأمر لم يتعد ترحيب طاقم المضيفات الفرانكو أراب فى الشكل والتصرفات وهن مزيج من الوقار الذى اختلط ببعض الأناقة البسيطة واللسان المتأرجح بين عدة لغات فى التعامل مع مختلف الركاب، ثم وجبة خفيفة ٱثرت أن أختار فيها طبق الفول لما خيرتنى المضيفة بين الفول ورفاقه وبين تكوين آخر للإفطار، ولم أجد شجاعة فى نفسى للتخلى عن مسمار المصريين حتى ونحن فى الفضاء، كل ذلك ونحن نتجاوز بقليل التاسعة صباحا موعد الإفطار شبه الثابت لى، وماهى إلا دقائق حتى كنا فوق ميقات الإحرام وقائد الطائرة ينبه الركاب للإحرام وكنت قد ارتديت زى الإحرام بالفعل قبل الإقلاع من القاهرة، ودقائق أخرى كان بعدها قائد الطائرة يهنئ الركاب ومضيفاته يطلبن منهم ارتداء أحزمة الأمان، هكذا مضت الرحلة دون أن تفى بمواعيد ظننتها ستوفيها فى الجو وتجيب عن تساؤلات كثيرة حول الطيران وأجوائه واثارتها والمطبات الهوائية والسهول الفضائية المنبسطة تقطعها الطائرة براكبها وكأنه يركب سيارة يشعر بما تحتها من أرض منبسطة أو ذات مطبات ومرتفعات.
وما كدت أفيق من الأمر حتى كنا فى رحلة عكسية من داخل الطائرة إلى صالة المطار عبر أنبوب ضخم مثل سابقه بالقاهرة، وأخيرا ها أنا فوق أرض الحجاز فى جدة، وما كادت أجواء المطار الداخلية تودعنا وتسلمنا إلى خارجه حتى أدركت أننا فعلا فى دنيا أخرى غير ماتركناه فى مصر، لفحات لهيب خماسينية لا تصمد لها الوجوه فضلا عن الأجساد حتى تتوارى منها داخل مكان مكيف، وما أشقى الجسد فى مثل هذه الأجواء وهو يتقلب بين اختيارين كلاهما مر ولا مفر من أيهما سوى بنوبة من برد الصيف الذى هو أشد حموا من حد السيف..
وماتزال الرحلة فى بدايتها.
Discussion about this post