بقلم الكاتب والأديب
هيثم فتحى
❞ تنساب الذكريات أمام عيني كنهر طويل الأمد لا تدرك العين بدايته من نهايته … أعرف يقينا أن نهر الزمن متصل البداية بالنهاية حتى وإن لم تدرك حواسنا ذلك الأمر … نهر متصل في حلقات دائرية متشابكة ومتقاطعة في ألاف النقاط … دارت تلك الأفكار في عقلي في ظلام لا يقطعه سوى ومضات أضواء متعددة من شاشة سينما عملاقه أمامي وبجواري زياد وچودي نشاهد سويا فيلم الأنيميشن سوبر ماريو بأحد سينمات المولات الشهيرة.
أغمضت عيني لثواني فسمعت صوت أحد السيدات تنادي على القط توم وتأمره بشئ ما … فتحت عيني بسرعة لأرى ما يحدث فما علاقة القط توم بعالم سوبر ماريو؟ … نظرت إلى الشاشة فلم أجد سوبر ماريو وأخيه لويچي ولكني وجدت القط توم يقف خائفاً من سيدة المنزل التي لم تسنح لي الفرصة لرؤية وجهها … أنظر حولي فأجد أخي وأبي ونحن صغار … كانت تلك أحد اللحظات المفصلية التي تتصل بها البداية بالنهاية بنهر الزمن …. أري أبي وعلى وجهه علامات السعادة لسعادتنا فقط … أنظر حولي فأتذكر المكان فأنا أعرفه إنه الصاله الرئيسية لسينما مترو بشارع طلعت حرب حفلة يوم الجمعة صباحا عام ١٩٨٥م.
إنها السينما ذلك العالم الساحر الذي أسرني منذ أن كنت صغيرا … كانت بدايتي مع ذلك العالم هو سينما مترو بوسط البلد بالقاهرة بالحفلات الصباحية كسينما للأطفال قبل بدأ الحفلات المسائية بعد صلاة الجمعة … أشعر بوميض ضوء خاطف فأنظر حولي ثانية فأجد أخي قد كبر قليلا ولحية كثيفه غطت وجه أبي … أنظر للشاشه مرة أخرى فأجد فيلم چيسون وألهة الحرب كواحد من أفلام الأساطير اليونانية لأحد الأبطال الإغريقيين … ومضة زمنية أخري فأجد ثلاثتنا وأمي معنا نشاهد فيلما لعادل إمام من أفلام الثمانينات أعتقد أنه فيلم مسجل خطر بسينما ديانا … كانت تلك التجربة الأولى التي أشاهد فيها فيلما عربيا بالسينما وسط الأسرة … كانت تجربة مختلفه لم أنساها على الرغم من نسياني لأحداث الفيلم الذي لم أشاهده مرة أخرى حتى يومنا هذا.
تلمع ومضة أخرى أمام عيني فأجد نفسي أمام باب سينما وليس بصالة العرض … زحام شديد وأناس كموج البحر الهادر … أنظر لأعلى فأجدها سينما ديانا وبوستر كبير لفيلم الإرهابي لعادل إمام … إنها التسعينات اعتقد أنه عام ١٩٩٤م … دخلت الفيلم خلسة من وراء أبي وأمي مع بعض أصدقائي ونحن نراقب كل رواد السينما للبحث عن إرهابي مندس بيننا حيث سرت الشائعات وقتها باستهداف السينمات التي تعرض ذلك الفيلم من الجماعات المتطرفة أنذاك … لم يكن يعنيني في ذلك الأمر سوى إنهاء الفيلم لتناول طبق كبير من الكشري من محل جحا بالقرب من سينما ديانا فلم تكن موضة أبو طارق قد أنتشرت بيننا وقتها.
ومضة أخرى فأجد أمامي النجم علاء ولي الدين رحمة الله عليه يلوح لنا مبتسما من على درجات السلم الداخلي لسينما ريفولي بصحبة محمد هنيدي ونحن ندلف لداخل السينما أمام دار القضاء العالي لمشاهدة فيلم قشر البندق الذي صممت على مشاهدته أنا وأخي لرؤية نجم جيلنا الأول بلا منازع الحالم الجميل أنذاك حميد الشاعري وسط عدم اقتناع من أبي وأمي وقتها … كانت تلك المرة قبل الأخيرة الذي تجمعنا السينما كأسرة فبعد عدة أسابيع كانت لنا تجربة أخيرة غريبه أنذاك في نفس السينما وهي سينما ريفولي الذي أصبحت الأن أثرا بعد عين …يتألم قلبي لرؤية أنقاضها المتهالكة … كان إعلانا بالتليفزيون عن أول فيلم ثري دي في مصر … كانت تجربة جديدة بتقنية ال Anaglyph باللونين الأحمر والأزرق … كانت تجربة بدائية ولكنها كانت ساحرة وكأنك انتقلت للمستقبل.
تتسارع الومضات بشدة كما يتسارع الزمان كلما كبرنا فتمضي السنوات دون أن ندري … ومضات سريعة بمشاهد عابرة مفعمة بالمشاعر المختلفة … سينما فاتن حمامة أضحك ملئ قلبي بصحبة صديق حانق ومشاهد من فيلم بخيت وعديله أمامي … سينما كوزموس وهنيدي مرة أخرى وهو يطالب بأن يروشنوه … ومضة حزينة أجلس وحدي بالظلام مكتئبا في حفلة خاوية تماما بسينما مترو دون أبي وأمي وأخي أشاهد الجزء الثاني من ثلاثية حديقة الديناصورات لسبيلبرج والتي لم تنجح ديناصوراته وقتها في إسعادي على الرغم من إنبهاري بشدة.
ومضة جميله أخيرة بسينما جالاكسي بالمنيل أنظر إلى الشاشة فأرى أحمد حلمي يجلس على كرسي متحرك فوق سقف أحد الميكروباصات وصوت حماقي الجميل يصدح في جنبات السينما فينبض قلبي بالحب فأنظر إلى عينيها الجميلتين وأبتسم لها ونضحك سويا فأغمض عيني سعيدا لأحتفظ بوجهها الجميل وابتسامتها البريئة بداخل أجفاني للأبد وصوت ضحكاتها الموسيقية الرقيقة بداخلي ما حييت.
يخفت صوت حماقي وأنا مازلت مغمض العينين فأنتظر صوت أحمد حلمي فأسمع من يقول “it’s me ,mario” ف أفتح عيني بسرعه لأجد نفسي بجوار زياد وچودي مازلنا نشاهد فيلم سوبر ماريو … كانت غفوة خاطفة لا تتجاوز الثواني المعدودة رأيت بها ومضات خاطفة من الماضي … أنتهي الفيلم أخيرا وسط سعادة أطفالي لنخرج سويا في طرقات السينما المظلمة محتضنا اياهم وأنا أرى دورة الزمان تبدأ من جديد من نفس نقطة البداية فدورات الزمن لا نهائية ونهر الزمن لا يتوقف.
دائما ما كانت تمثل لي السينما جزءا أصيلا من ذكرياتي …لم تكن السينما تمثل لي القيمة الفنية على مدار حياتي أكثر من كونها كانت مكانا تسكن فيه مشاعري … مشاعر السعادة الطفولية البريئة ، دفئ الأسرة ، جموح المراهقة ، شغف التجارب الجديدة ، اكتئاب الوحدة ، الحب الأول ، رباط الصداقة … ينساب الزمن ويزحف التمدن الزائف على قاعات السينما فتفقد بريقها الجميل الراقي بصالاتها المتسعه كالقصور لتتحول إلى غرف سينمائية صغيرة ذات طابع تكنولوچي مبهر يفتقد للأصاله … صراع مستمر ودائم بين الأصالة والحداثة ، بين الرقي والتطور … ما زلت أقف على باب السيما كما أحب أن أسميها أسعد بتلك اللحظات فعلى باب السيما وجدت دفئ الأسرة و رباط الصداقة والحب ❝
“على باب السيما”
#أين_أشيائي_نوستالجيا_الجيل_x
#حكايات_رجل_أربعيني
Written by: Haytham Fathy – هيثم فتحي
Discussion about this post