بقلم دكتور …
عاطف معتمد
لم يكن هناك في الإسلام من شعيرة فتحت للمؤمنين أبواب المعارف المكانية، وفهم أعراق البشر، وتداول الخبرات، وتناول الأخبار، وتعلم المهن والحرف، واغتنام المهارات، واكتساب العلوم، وفهم السياسة والاقتصاد، ورؤية تنوع البيئات والأنواء والأمزجة مثل شعيرة الحج.
قد لا يعجبك هذا الكلام لأنك ابن عام 2023 حيث أصبح الحج عملا ظاهراتيا تحكمه قواعد رأسمالية لا يقدر عليها إلا الأثرياء، وتحكمه قواعد سياسية وإدارية ترتبط بجوازات السفر وحجز الفنادق وشركات السياحة.
إذا ما استثنينا القرن الأخير، منذ اختراع وسائل السفر الجوي السريع والنقل البحري المريح، فإن ملايين البشر اغتنموا فضائل الحج عبر القرون الماضية بما لا يمكن مقارنته بعالم اليوم بأي حال من الأحوال.
تخيل أن فوجا من الحجاج خرج من الصين فمر على بلاد الترك وما وراء النهر ونزل إلى فارس ووصل العراق ومن هناك هبط إلى قلب الجزيرة العربية أو ساحل الحجاز قاصدا مدينة الرسول ومنها إلى مكة المكرمة.
تصور أن فوجا انطلق من عمق السنغال وغانا ومالي وتشاد فوصل واحات ليبيا ومنها إلى برقة فالإسكندرية ثم إلى النيل، أو سلك طريق دارفور ومنه إلى النيل ومن هناك إلى عيذاب حيث حلايب وشلاتين فعبروا البحر إلى جدة على مرمى حجر من مكة المكرمة.
وتخيل ضفائر تلك الأفواج التي جاءت مصر فوصلت الإسكندرية، أو حطت في أسوان أو مرت بدرب الأربعين من جهة الواحات الخارجة، فبلغت أسيوط، ثم اجتمعت هذه الضفائر معا أو تفرقت إلى سبل متوازية فوصلت بلاد الحجاز عبر البر والبحر مرورا بمصر المحروسة، أو أن الفوج المصري انضم عبر سيناء إلى الفوج الشامي فاتجها معا إلى مدينة الرسول ومنها إلى مكة المكرمة.
ومن أوروبا وآسيا الصغرى أتت أفواج مع القافلة التركية التي انضمت إليها ضفائر من بلاد القوقاز والشركس وبحر قزوين وتتار القرم وعمق روسيا وجليد سيبيريا.
هذه القوافل التي لا تعرف بعضها بعضا ولا تفهم أحوالها السياسية وتتكلم لغات متفاوتة وتصدح بألسنة عجائيبة وتمارس عادات وتقاليد وتتناول أطعمة وأشربة فريدة وترتدي ملابس مبرقشة ومزركشة، وتتباين فيما بينها في طرق تلاوة القرآن وتفاسير الأحاديث وتجليات الوعي بالدين.
كل هؤلاء يجتمعون في مكان واحد فيتعارفون ويفهمون ويتبادلون ما في رؤوسهم من علوم ومعارف ولغويات ثم يعودوا سفراء إلى بلادهم.
القرن الأخير – قرن الحداثة – قدم لنا وفرة مضاعفة بمئة مرة في أعداد الحجاج لكنه لم يعد يحمل للحجاج نفس الخبرات والمعارف وذات الأرواح المحلقة.
حج الحداثة سهل كثيرا على الناس شعائرهم لكنه حرمهم من كثير من تجليات تلك الشعيرة التي التقوا فيها بأناس أتوا من كل فج عميق.
يحسب لحج الحداثة أنه أحدث تعديلا “جندريا” حين أصبحت المرأة شريكا في أداء الشعيرة مع الرجال لسهولة السفر وأمان الطريق.
يحسب لحج الحداثة – مع التقدم الطبي – نظافته وتنظيمه وتخلصه في كثير من الأحيان من تهمة نقل العدوى ومنبع تفشي الكوليرا عبر البلاد.
ليس صحيحا أن حج الحداثة صار قاصرا على الأثرياء وأنه كان في الماضي متاحا للجميع فقراء وأثرياء.
لقد كان هناك في الماضي أيضا تمييز على أساس الثروة والصحة وفائض الوقت.
في الماضي كانت ثروة الوقت هي الأهم، حين يهب الحاج هذه الرحلة ما بين ستة أشهر إلى عامين وقد تمتد لعدة سنوات من دون مصدر رزق، سنوات يمضيها فقط للحج من دون عمل.
لكن التاريخ يخبرنا أن الآية الكريمة التي أكدت على أنه لا حرج أن يشهد الحجاج “منافع لهم” قد فهمها جيدا الحجيج.
بلاغة كلمات الآية هنا فتحت التأويل في المنافع لتشمل العلوم والمعارف وترويح الأنفس ومنافع الدنيا من تجارة ومال وربح وتبادل السلع.
هكذا شارك في الحج تجار ينقلون سلع الصين إلى مصر وسلع المغرب إلى تركيا وجواهر الحبشة واليمن إلى فارس والعراق.
لا يمنع هذا من الاعتراف بأن بعض سلوكيات الوثنية ومخالفة الشرع جاءت بسبب العجز عن أداء فريضة الحج في ارتداد عكسي !
ففي عمق كشمير وغرب الصين وجنوب روسيا وأدغال أفريقيا كان هناك حاج واحد تمكن من أداء الشعيرة وآلاف من مريديه لم يتمكنوا.
هنا تفتق ذهن بعضهم وأقاموا ضريحا ومقاما يطوفون حوله سبعة أشواط ويأتون إليه من القرى النائية يلتمسون من بركات الحاج، هنا أفتى لهم البعض بأن سبع زيارات لمقام الولي تعدل حجة إلى مدينة الرسول ومكة المكرمة.
باستثناء القرن الأخير، كان لقب الحاج ينقل صاحبه إلى مصاف القديسين في المسيحية، أن تكون حاجا أي أن تكون قديسا !
في قرن الحداثة دخلت عوامل كثيرة غيرت من مفهوم الشعيرة، وطرحت تحديات عظيمة على الإمساك بالكنز الروحي الذي تحاول أن تبدده مخالب الرأسمالية وشهوات استهلاك الأطعمة والأشربة، ومنظرة الصور الفوتوغرافية بكاميرات الهاتف المحمول الذي يلهو به الناس في فناء الكعبة بعدما كان أجدادهم يرتلون ويسبحون ويستغفرون.
من دون أي مبالغات يمكنني القول إن الحج في قرون ما قبل الحداثة اخترع مفهوم “العولمة” الحضارية قبل قرون طويلة من اختراع مصطلح “العولمة” الجديد، وعولمة الحج عولمة بناءة تبادلية لا احتكارية ولا استعمارية، قربت مشارب الثقافة والوعي والفهم.
اليوم يتعرض الحج في زمن العولمة الاستلابية إلى تحديات صعبة تحاول أن تحبسه أسيرا بلا فوائد في طقوس شكلية وسلوكيات رأسمالية واهتمام أكثر بالظاهر من دون الباطن.
إن موت المسافة – أو موت الجغرافيا- هو الذي جعل حجاج مصر يصلون إلى مكة في 4 ساعات بالطائرة بعدما كانوا يرتحلون أربعين يوما في الصحراء.
أية فوائد جلب “موت المسافة”؟ وأية خسائر جلب “موت الجغرافيا”؟
Discussion about this post