بقلم الكاتب الصحفي
سعيد الخولى
وما ادراك ما 5يونيو1967..
كان عمرى البالغ سبع سنوات وتنشئتى المتحفظة بين أب نزح من القرية بزوجته وابنه وابنته وكل همه أن يوفر لهم أسباب الحياة ،يمشى كما يقولون جنب الحيط ولواستطاع لاخترقها بمن معه،وأم قروية شابة غريبة لاتعرف جارة أو قريبة وبعيدة عن أختها وأخيها المقيمين بعيدا عنها جغرافيا،كل هذا التحفظ وقلة وسائل الإعلام وقتها لم يمكنى معهما أن أستوعب مامعنى الهزيمة ولا أتابع تطورات مايجرى ؛ففى تلك المرحلة كان الراديو هو وسيلة الإعلام الشعبية الأولى وكان التليفزيون قليل التواجد فى البيوت إلا لدى المقتدرين. وكانت بعض أجهزته تتوافر فى الحدائق العامة،وأتذكر أن إحدى تلك الحدائق كانت حديقة عرب المحمدى التى كانت أمى تأخذنى وأختى بين الحين والحين فى عصارى أيام الصيف ،فنتنزه ونشاهد التليفزيون.
ولا أتذكر من تلك المرحلة إلا تجمعات أهالى الحى ونحن معهم فى مخابئ وقت تدوى صفارات الإنذار ،وتجمعات صاخبة يحمل أصحابها أيادى الهون وسكاكين المطبخ وبنادق قديمة يحملها البعض ،وكلهم يرددون كلمة الدفاع المدنى وصيحات وشعارات”حنحارب ..حنحارب إسرائيل الأرانب” ،وأفهمنى أبى بعدها أن إسرائيل قد هزمت مصر وأن هذه التجمعات أصحابها متطوعون فى الدفاع المدنى تحسبا لنزول أى قوات للعدو الإسرائيلى بالقاهرة.
هذا ما وعته ذاكرتى عن تلك الفترة ودهان شبابيك البيوت باللون الأزرق حتى لاتظهر إضاءتها ليلا وتكون البيوت هدفا للطائرات المعادية، رغم أن الكهرباء لم تكن فى كل المناطق الشعبية وأتذكر أن منشية الصدر حيث كنا نسكن كانت بدون كهرباء فى غالبية بيوتها القديمة.،كذلك أتذكر شكائر الرمل المتناثرة فى تجمعات أمام بعض البيوت لاتخاذها ساترا يحمى من يقف وراءها للدفاع عن بيته،كما تم تشييد حوائط من الطوب أمام مداخل البيوت ..كل ذلك جرى بعد ان تكشفت الحقيقة المرعبة والهزيمة الساحقة عكس ماظلت الإذاعة تردده من بيانات كاذبة عن انتصار وهمى ،وقد تابعت مؤخرا برنامجا إذاعيا عن تلك الفترة التى تحملت فيها الإذاعة فاتورة الكذب فى البيانات الصادرة عن القيادة وقتها وكيف حمّل الناس الإذاعة مسئولية خداع الرأى العام ،وهم لايصدقون أنها كانت ضحية مثل المستمعين تماما،وتحدث بعض رموزها فى البرنامج ومنهم حمدى الكنيسى وعمر بطيشة وسامية صادق وأحمد سعيد وكيف كانوا مخدوعين إزاء البيانات الرسمية الواردة إليهم حتى اكتشفوا المأزق الذى وضعتهم فيه القيادة السياسية والعسكرية.
ولما كبرت وقرأت أدركت أننا كنا بسبيلنا إلى هزيمة حتمية لامفر منها،فماذا كان منتظرا والقيادات العسكرية غارقة فى عسل الزيجات من أهل الفن ؛واحد يتزوج فنانة سلبت عقله برقصة الهولاهوب ومدير مكتبه القيادة الكبيرة يجاريه ويتزوج مطربة امسكوا الخشب، وينتقل الصراع من القائد ومدير مكتبه إلى الزوجتين المتصارعتين على صفقات السيارات الواردة بمعرفة القائد ،ومعروف طبعا مصير القائد الذى تضاربت الروايات بين أنه انتحر كما أعلن رسميا أو أنهم نحروه كما قالت زوجته وأبناؤه،أما مدير مكتبه فقد كانت نهايته المأساوية صريعا فى شقة لندن التى شهدت نهايات مريبة لعدد من الشخصيات بعد ذلك ومنهم الفنانة سعاد حسنى وأشرف مروان وانتهت شرطة سكوتلنديارد فى كل مرة إلى نتيجة ضياع الفاعل الحقيقى،ووجدوا فى شقة القتيل على شفيق مليون جنيه استرلينى نقودا سائلة منذ أكثر من خمسة وأربعين عاما.
وخرجت الإذاعة من المأزق واستردت جمهورها فى رمضان من ذلك العام 1967بمسلسل فكاهى اسمه “شنبو فى المصيدة”بطولة فؤاد المهندس وشويكار وتأليف أحمد رجب الذى انزعج حين اتصلت به صفية المهندس رئيسة الإذاعة وقتها تطلب منه عملا كوميديا للبرنامج العام ولم يتصور أن هذا من الممكن أن يحدث بعد تلك النكسة الموجعة للدعوة القومية وبطلها،لكن رئيسة الإذاعة أصرت فكان مسلسل “شنبو فى المصيدة” ، والغريب أن الزعيم أرسل لرئيسة الإذاعة يثنى عليها أنها قدمت عملا كوميديا أنسى الناس بعض مرارة الهزيمة،ويقول بعض رموز الإذاعة فى البرنامج إن اسم المسلسل كان نوعا من محاولة استعادة المستمع بغرابة الاسم ورمزيته بشنبو الذى وقع فى المصيدة والتى أكملها نغمات أغنية المقدمة المستوحاة من إحدى أشهر أغنيات عبد الحليم حافظ الوطنية بعد ثورة يوليو1952 وهى أغنية “بلدى يابلدى”وفى المقابل كانت الأغنية تقول “شنبو ياشنبو”..ترى من كانت تقصده كلمات الأغنية فى مسمى “شنبو فى المصيدة”،لعل من سمع الأغنية والمقدمة يدرك من نغماتهما المتشابهة وكلماتهما المتقابلة أنها كانت مثل رمزية فيلم “شئ من الخوف “وجواز عتريس من فؤادة باطل..
ويتناول الرئيس الاسبق محمد نجيب كبير ضباط ثورة ١٩٥٢في مذكراته فترة مابعد افراج السادات عنه بعد تحديد اقامته الجبرى على يد ناصر ،لعشرين عاما،ويوضح بعد تأقلمه مع الناس واعتياده عليهم،ويقول عن تأثير النكسة على الشارع:
لم أصدق نفسي ، هل أستطيع ان اخرج وادخل بلا حراسة ؟؟!!!
هل استطيع ان اتكلم في التلفون بلا تنصت؟!
هل استطيع ان استقبل الناس بلا رقيب ؟!!
لم أصدق ذلك بسهولة.
ولكن بعد فترة وبالتدريج عدت إلى حريتي وعدت إلى الناس وعدت إلى الحياة العامة.
وياليتني ما عدت !!
فالناس جميعا كان في حلقها مرارة من الهزيمة والاحتلال . وحديثهم كله شكوى وألم ويأس من طرد المحتل الإسرائيلي ، و بجانب هذه الأحاسيس كانت هناك أنات ضحايا الثورة الذين خرجوا من السجون والمعتقلات ضحايا القهر والتلفيق والتعذيب.
وحتى الذين لم يدخلوا السجون ولم يجربوا المعتقلات ، ولم يذوقوا التعذيب والهوان كانوا يشعرون بالخوف ، ويتحسبون الخطى والكلمات , وعرفت ساعتها كم كانت جريمة الثورة في حق الإنسان المصري بشعة.
وعرفت ساعتها أي مستنقع ألقينا فيه الشعب المصري .
فقد حريته.. فقد كرامته.. فقد أرضه.. وتضاعفت متاعبه .. المجاري طفحت.. المياة شحت.. الأزمات اشتعلت.. الاخلاق انعدمت.. والإنسان ضاع .
انتهت كلمات وشهادة نجيب وتلخيصه لاسباب النكسة الحقيقية قبل النكسة العسكرية كما لمسه بنفسه وأدركه عما فعلت الدكتاتورية بالناس والبلد.
Discussion about this post