بقلم الكاتب الصحفي
سعيد الخولى …
حكاية 55ألف أثر مصرى مسروق فى الجناح الأسطورى باللوفرالفرنسى
ترى هل كانت حكاية اتهام مدير متحف اللوفر الفرنسى الأشهر فى العالم بتهمة تهريب آثار من بينها آثار مصرية منهاشاهدة ضخمة من الجرانيت الوردي، محفورة باسم توت عنخ آمون معروضة حاليا في متحف اللوفر أبو ظبي. وصفها عالم المصريات الفرنسي، الأستاذ في جامعة بول فاليري في مونبلييه، مارك جابولدى، بـ”الاستثنائية” ـ هل كانت تلك الواقعة هى الأولى للفرنسيين مع الآثار المصرية؟
نعم أثار احتجاز الرئيس السابق لمتحف اللوفر في فرنسا جان لوك مارتينيز، بتهمة تهريب الأثار وغسيل الأموال جدلاً كبيراً، كما أشارت لذلك صحيفة لوموند،لاسيما وأن بعض المقتنيات المسروقة من المتحف سرقت من مصر خلال احتجاجات ثورة عام 2011. لكنها بالطبع لم ولن تشير إلى حجم مافى اللوفر من آثار مصرية وضعت فى جناح خاص باللوفر أسموه”الجناح الأسطورى”.. إن الولع الفرنسى بالتاريخ المصرى القديم ترك مشوارا حافلا بالسرقات والاستيلاء بطريق الإهداء أو التنقيب المتخفى وراء بعثات علمية ،هذا المشوار الحافل بالسرقات جدير بالتسجيل للتاريخ وللناس كى يعلموا أن الحملة الفرنسية على مصر جاءت ببعض الإغراءات الحضارية لكنها فتحت الباب واسعا لسرقة التاريخ المصرى القديم وشواهده الحية من الآثار. وتحولت الآثار المصرية إلى اللآلئ التى تزين متحف اللوفر بباريس الذى يعتبر واحداً من أهم وأعرق المتاحف العالمية.والذى تمت حركة توسعته وتطويره ليصل عدد القطع المصرية وحدها إلى حوالى خمس وخمسين ألف قطعة أثرية، وتضاعفت مساحة العرض فبلغت أكثر من أربعة آلاف وخمسمائة متر، تمتد عبر تسع عشرة صالة فى المتحف، ليصبح بذلك أجمل وأغنى المتاحف المصرية فى العالم، لدرجة أنه وُصف من قبل المختصين بـ”الجناح الأسطورى”.
ورحلة الآثار المصرية إلى باريس تبدأ منذ الحملة الفرنسية على مصر بقيادة نابليون بونابرت 1798 – 1801، أولى محطات انتقال الآثار المصرية إلى فرنسا، اذ قام أفرادها بجمع ما استطاعوا جمعه من آثار مصر ليحملوها إلى فرنسا، لكن حالفهم سوء الحظ وقتها، فسقطت كل هذه الآثار التى جمعوها بما فيها حجر رشيد الشهير، فى أيدى أعدائهم الإنجليز بعد هزيمة عسكرية مريرة، وانتقلت تلك الآثار إلى إنجلترا، والتى أسست بها واحداً من أروع أجنحة المتحف البريطانى فى لندن، ونعنى “الجناح المصرى”. و فى الخامس عشر من مايو 1826، أصدر شارل العاشر أمراً ملكياً بإنشاء “الجناح المصرى” فى اللوفر، وتعيين جان فرانسوا شامبليون أميناً عاماً له، تقديراً لجهوده الدؤوبة ومناداته المستمرة بإنشاء متحف للآثار المصرية.
وعن أول دفعة آثار مصرية وصلت فرنسا يقول د.حسين عبد البصير مدير متحف الآثار بمكتبة الإسكندرية والمشرف علي مركز الدكتور زاهي حواس للمصريات:
جاءت أولى مجموعات الآثار المصرية إلى اللوفر من صديق نابليون الشخصى، وآخر مدير للمتحف الإمبراطورى، الرسام الفرنسى المعروف فيفان دنيون، واشتملت على تماثيل ملكية عدة، ودخلت المتحف فى عام 1793، وتبعتها 16 قطعة أخرى فى عهد لويس السابع عشر.
وعندما اعتلى شارل العاشر العرش، عُرضت مجموعة ضخمة من التماثيل المصرية القديمة احتفاء بهذه المناسبة، واشتملت على تمثال المعبودة إيزيس الضخم من فيللا الإمبراطور الرومانى هادريان، وثلاثة من تماثيل الكتلة للنبلاء “آخ – آمون – رع” و”بادي – آمون – أوبت”، و”واح – إيب- رع”، والتمثال الجاثى للمدعو “ناخت – حور – حب” وتمثالين للملكين “نفرتيس الأول” و”أكوريس” من الأسرة 29، كما أحضر الكونت دى فوربى التماثيل الجميلة للربة “سخمت” الممثلة فى هيئة أنثى لها رأس لبوءة، وأهدى ابن تاجر الآثار بيير بول تدنا،دوفن التابوت الحجرى الأول لـ”أيونا” إلى لويس الثامن عشر.
فى العام 1824، فوض المتحف شامبليون شراء مجموعة “دوران” التي بلغ عددها حوالى 2149 قطعة أثرية، لتصبح بحق أولى مجموعات الآثار المصرية الضخمة التى تدخل اللوفر، ووصفها أمين الآثار المسئول عن تقييمها الكونت كلار قائلاً: “يجعل تنوع وروعة هذه الآثار، والتى تشكل بمفردها معرضاً جميلاً، يظهر كل شىء يتعلق بمصر، منها مجموعة صالحة للفن والتعلم، وليست أقل أهمية من تلك التماثيل الضخمة التي تملأ اللوفر، فهي عن ذلك البلد المدهش المتفرد مصر”، ذلك بالإضافة إلي حوالى 1225 قطعة من التمائم والفنون الصغرى والمومياوات والأوانى والحلى “.
وصدّق شارل العاشر على أمر شراء هذه المجموعة فى الرابع عشر من ديسمبر 1824، وكانت لحظة فارقة فى تاريخ الجناح المصرى فى اللوفر، ونظراً لضخامة المجموعة وتميزها، اقترح التقرير الأولى المرفوع إلى السلطات الفرنسية، إنشاء جناح خاص للآثار المصرية فى اللوفر، على أن يُطلق عليه اسم “متحف شارل العاشر”.
وعندما أقدم القنصل الفرنسى العام فى مصر وجامع الآثار الشره، براناردين دروفتى على بيع مجموعته الخاصة الهائلة، والتى جمعها عبر سنوات عمله الطويلة فى مصر، رفضت فرنسا شراءها، نظراً لمغالاته فى ثمنها، وعلى الفور، اشتراها ملك سردينيا شارلس فليكس، وعرضها فى متحف “كورين” فى إيطاليا، وندم شامبليون أشد الندم على ضياع هذه المجموعة من أيدى اللوفر، وعبر بحثه الدؤوب عن مجموعات أخرى، اكتشف شامبليون وجود مجموعة ضخمة فى ليفورنو فى إيطاليا، كونها أكبر لصوص الآثار المصرية في العصر الحديث، من خلال قنصل بريطانيا العام فى مصر هنرى سالت فى الفترة من 1819 – 1824، وكان سالت أعظم ناهبى الآثار المصرية، فنهب معظم جبانات الأقصر ومعابد الدلتا، فطلبها المتحف البريطانى، لما بها من مجموعة من التماثيل الضخمة والنقوش الجميلة، وكان ذلك فى العام 1818.
علي الجانب الآخر، شحذ شامبليون فصاحته، واستخدم ملكاته الخاصة للتأثير على شارل العاشر وحثه على شرائها، حتى يفوت فرصة الانتفاع بها على المتحف البريطانى مما شجع شارل العاشر فأصدر مرسوماً ملكياً بالشراء على الفور فى 23 فبراير 1826، وكوفئ شامبليون على جهوده بتعيينه أميناً عاماً للجناح المصرى الجديد فى اللوفر.
وكان من أبرز محتوياتها، تمثال أبو الهول الضخم من تانيس فى شرق الدلتا المصرية، والذى يُعد من أبرز معالم الجناح المصرى فى اللوفر، وحوليات الملك تحتمس الثالث، وتمثال سوبك حوتب الرابع، وتمثال أمنحتب الرابع، أو أخناتون، والأشكال المتنوعة لعلاقة عنخ “الحياة” الهيروغليفية، والتصوير الساحر للسيدة ناى، بالإضافة إلي الطقوس الجنائزية المصورة بدقة على تابوت الملك رمسيس الثالث من الجرانيت الوردى، والآثار الخارجة من المقابر الأخرى، والعديد من مناظر الحياة اليومية المصورة على أدق الآثار وأصغرها حجماً، ولوحات مقبرة نسو الرائعة، وتمثل المجموعة، فى عمومها، لوحة بانورامية شديدة التفاصيل لفنون وخصائص الحضارة المصرية القديمة.
كان القنصل دروفتى جامعاً نهمًا للآثار المصرية، واستخدم فى ذلك الوسائل كافة، ومن بينها وسائل الحفر الحديثة، أكثر من معاصريه لصوص الآثار الآخرين، للتنقيب ونبش الآثار، وكان مساعده ومستشاره الرئيسي المثّال جان-جاك ريفو، الذى ساعدت موهبته الفنية وخبرته بالفنون دروفتى فى كثير من قراراته، ورفض لويس الثامن عشر مجموعته الأولى، واشترى فلك البروج “زودياك”، من سقف معبد دندرة فى جنوب مصر بثمن باهظ على الفور، وبوصول هذا الأثر الفريد باريس، سار فى موكب هائل، كموكب الغزاة المنتصرين، وصار حديث المجتمع الأوروبى عموماً والباريسى على وجه الخصوص.
ازدادت سعادة شامبليون عند تلقيه خبر الشروع فى بيع مجموعة دروفتى الثانية عام 1827، فزلزل الأرض وهز السماء، ليحصل عليها الجناح المصرى بأى شكل وبأى ثمن، وضمت مجموعة دروفتي الذهبية تماثيل رمسيس الثانى، وسوبك حوتب الضخمة، ورأس صغير للملك أمتحتب الثالث والد أخناتون، وأوستراكات، أو ما يسمي بـ”شقفات فخارية” جميلة لوجه أحد الملوك الرعامسة، وتنتمي للأسرتين 19 و20، وعدد من تماثيل الأفراد الكبيرة الضخمة، وآلاف من لوحات المعبود حورس السحرية، وتوابيت “جد – خونسو – إيوف – عنخ”، وثلاثة توابيت حجرية ضخمة، تشكل فى مجملها بانوراما عامة عن الحياة الاجتماعية فى مصر القديمة.
وفى الفترة من 1828 – 1829، سافر شامبليون الى مصر، وعاد محملاً بكنز ثمين من الآثار المصرية قُدِّر بأكثر من مئة قطعة مدهشة.
وبعد حياة فصيرة لم تتجاوز الثانية والأربعين، توفي جان- فرانسوا شامبليون، وذلك في مارس 1832، تلك الحياة القصيرة كانت حافلة بالعطاء لبلده فرنسا، وكانت مليئة بالجمع المتواصل لآثار مصر، تاركاً الجناح المصرى فى اللوفر عامراً بأكثر من تسعة آلاف قطعة أثرية متنوعة، ولكنه تعرض من بعده للإهمال والتدمير، فعثر على نقش الملك سيتى الأول سالف الذكر مهشماً فى التراب.
أعطى تعيين عالم الآثار المعروف، والأستاذ بـ”الكوليج دى فرانس”، إمانويل دى روجيه، رئيساً للجناح المصرى، دفعة جديدة للجناح، ففى عام 1853، طلب مجموعة كلوت بك المهمة، والتى ضمت 2678 قطعة أثرية، وكان أنطونى باتلمى كلوت يشغل منصب كبير أطباء محمد على باشا، ونجح بحكم موقعه، فى تكوين مجموعة ضخمة من الآثار المصرية، ضمت توابيت حجرية وخشبية كبيرة، وحوالى 250 تمثالاً حجرياً ولوحة، ومجموعة كبيرة من البرونز، وتماثيل رائعة للقطة المقدسة باستت، و26 مومياء للحيوانات المقدسة، والعديد من الآثار الجنائزية والدنيوية، وقد جاءت من أماكن مختلفة، فجاء نقش مر إيب النادر من الدولة القديمة من منف، من قرى الجيزة الحالية، فيما جاءت الأوانى الكانوبية، أوانى حفظ أحشاء المتوفى، الخاصة بالملك إنتف الثانى، من الأسرة الحادية عشرة، والبرديات البطلمية من الأقصر.
وهكذا عاما بعد عام وجيلا بعد جيل لم يتوقف الوله الفرنسى بالحضارة المصرية التى يعتبرونها ـ وهو الواقع ـ أعرق الحضارات التى عرفتها البشرية ومازالت باقية بأسرار مجهولة حتى وقتنا هذا.لم يتوقف الولع الفرنسى بالحضارة والآثار المصرية والحصول على كنوزها المسروقة أو المهداة أو المباعة عن طريق مافيا تجارة الآثارحتى كانت القضية الأخيرة وفقاً لوسائل الإعلام الفرنسية، فإن جان لوك مارتينيز ليس الوحيد المتورط في هذه القضية، تم فتح تحقيق في عام 2018 من قبل المكتب المركزي لمكافحة الاتجار بالممتلكات الثقافية في الاتجار الواسع بالآثار المنهوبة في الشرقين الأدنى والأوسط، حول هذه الآثار المنهوبة المعروضة في متحف اللوفر أبو ظبي، لافته إلي أن أن هذه الشاهدة الخاصة بتوت عنخ آمون ليست القطعة الوحيدة، ولكن هناك أيضًا عشرات القطع الأثرية الأخرى.التى تطرح مشكلة خطيرة تتعلق بالمنشأ، موضحين أنها تم العبث بها من قبل خبير الآثار، كريستوف كونيكي، والتاجر روبن ديب. ويشتبه المحققون في أنهم قدموا وثائق مزورة واختلقوا أصولا مزورة “لغسل” مئات القطع الأثرية المنهوبة من دول مختلفة في الشرق الأدنى والأوسط.
وبحسب الصحيفة الفرنسية، فإن كريستوف كونيكي، الذي كان يعمل في دار المزادات “بيرجييه وأسوسييه”، في مرمى تحقيقات الشرطة منذ بيع التابوت الذهبي للكاهن “نجم عنخ”، في عام 2017، مقابل 3.5 مليون يورو، في متحف متروبوليتان في نيويورك.
وأعيد التابوت إلى مصر في عام 2019، بعد تحقيق دولي أجرته السلطات الأمريكية والفرنسية والألمانية والمصرية، أثبت أن التابوت سُرق خلال أحداث ثورة 25 يناير 2011 ضد الرئيس الراحل حسني مبارك، بحسب الصحيفة الفرنسية.وأضافت لوموند” أن المحققين اكتشفوا أن القطعة قد مرت بين يدي تاجر من هامبورج، روبن ديب، الذي كان يزود كريستوف كونيكي بالمزادات لمدة 10 سنوات ويعمل مع الأخوين سيمونيان المتخصصين في الآثار”.
هذه كانت أحدث القضايا والمهازل الفرنسية فى حق تاريخ مصر والاتجار فيه واستغلال التجار الخونة من داخل مصر وخارجها وتهاون قيادات تاريخية فى إهداء قطع تاريخية للقيادات الفرنسية عبر أكثر من 220 عاما،فهل ستكون الأخيرة أم أن جراب الحاوى الفرنسى أو أى حاوى مستعمر آخر مازال فيه كثير؟
Discussion about this post