بقلم الكاتب الصحفي
سعيد الخولى
طوف وشوف ..عندما غنوا للوطن
وحتى إشعار آخر ستظل فترة الستينيات ـ فى رأيى ـ فترة زاهية بما تركت لنا من موروث ثقافى وفنى أيضا لايزال مئونة لهواة النوعين، فثقافة الستينيات بأسماء كبارها مازالت نبعا فوارا ومصدرا موّارا بالنهل منه حتى لو كانت تلك الأسماء تربت وتكونت قبيل فترة الستينيات،لكنها ازدهرت وأعطت زبدة عطائها فى الستينيات وما تلاها ،ويكفى أن نشير لأسماء فى وزن العقاد ونجيب محفوظ والحكيم وطه حسين.أما عن الفن فحدث ولاحرج ،فقد كان هناك مايسمى بالمشروع القومى الذى التفت حوله الملايين إلا مجاريح يوليو 1952،وهو مانجح الإعلام والفن مع السياسة فى ربطه بالمشروع الناصرى الذى ارتفع إلى عنان السماء منتصف ستينيات القرن الماضى حتى مادت به الأرض فى يونيو 67 ،وتنوعت الانتكاسة بين خيبة أمل وبين إعادة حسابات وبين سؤال للذات حول حقيقة ذلك المشروع وأسباب انتكاسته التى للحق وجدت أطرافا كثيرة لتتساند معا عربيا وغربيا وداخليا وتسدل على مصر ستارا أسود كئيبا ، ووبطبيعة الحال كان من بين أطراف خيبة الأمل والإحباط ما أصاب أهل الإبداع الفنى الذى أصيبت رموزه بالانتكاسة النفسية ارتباطا بخيبة الأمل فيما ظلوا يبشرون به مؤمنين موقنين واثقين فى بلوغ درجة النجاح القصوى،حتى أن أحدهم وهو الفنان الشاعر صلاح جاهين رحمه الله ـ أحد أشهر من كتب أغنيات الثورة وأرّخوا لها بالكلمة المغناة على لسان عبد الحليم حافظ ـ أصيب بانتكاسة نفسية كبيرة وقال لعبدالحليم حافظ:إحنا كنا بنضحك على الناس ولّا إيه؟.
ومن أجمل ما تركته الستينيات فنيا ـ ومعظمه جميل ـ فى الغناء الوطنى ذلك النشيد الرائع “طوف وشوف”،تذكرته وتردد فى خاطرى وظل يلح عليه إثر انسياب بعضه وأنا لأقود سيارتى من سيراة مجاورة مع جملة “وابتسامى شمسنا أجمل تحية للضيوف”،وسبقتنى السيارة المنطلقة وعلى كرسى قيادتها شاب عشرينى جمع بين توقد الشباب ورزانة الذوق الذى يسيطر عليه الآن كل الموبقات سماعا ومشاهدة وتفاعلا ، سبقنى بسيارته لكن لم يغادرنى النشيد بأنغامه وأداء أم كلثوم المعجز له والكلمات الرائعة للمؤلف الشاعر الكبير الراحل عبدالفتاح مصطفى رحمه الله، فهو حقا من أرق وأجمل الأغاني والأناشيد الوطنية التى غنت لمصر وتغنت بها، أغنية تثير في النفس متعة سياحة داخل مصر المعنى والمبنى والتاريخ والحاضر وقت غنائها.حتى لو اختلفت معه . مصر الغيطان وجمال الريف وهو يدعو الناس للإيمان بالمحبة والسلام، مصر المصانع ودخانها وأصوات مواتيرها، مصر التاريخ وقد نحت المؤلف جملة عبقرية تلخص آلاف الصفحات من كتب التاريخ، جملة عبقرية تقول”كان نهار الدنيا ماطلعش وهنا عز النهار”، وكانت أنغام رياض السنباطى قمة فى الروعة.ولعل من يعرفون النشيد مثلى ويحبونه يحفظون كلماته جيدا ،لكن لعل الأجيال الجديدة لم يسمع أغلبها هذا النشيد الرائع كثيرا وغطى عليه عندهم الأغنية الوطنية الأكثر ترديدا بينهم خلال السنوات الماضية منذ ثورة 25يناير “ياحبيبتى يامصر”،ومعها “يا أغلى اسم فى الوجود”،فما الأكثر ترديدا وتشغيلا من خلال وسائل الإعلام المختلفة وفى المناسبات المتعددة وطنيا ورياضيا مع كل انتصار،أو حتى تغلبا على حزن أى انكسار.أما نشيد”طوف وشوف” فهو مختلف وأكثر شمولا وتقول كلماته لمن لايعرف النشيد :
طوف بجنة ربنا ببلادنا وأتفرج وشوف
ضفتين بيقولوا اهلا والنخيل شامخ صفوف
وابتسامة شمسنا أجمل تحية للضيوف
والنسيم يرقص بموج النيل على الناي والدفوف
طوف وشوف
شوف هنا جنب المصانع والمداخن والزحام
الغيطان إلي اخرها المدنه وأبراج الحمام
والسواقي اللى ما نامت ليله من كام الف عام
شوف جمال الريف وآمن بالمحبة والسلام
طوف وشوف
شوف اثار أجيال ملو الدنيا حضارة وابتكار
علموا قلب الحجر يوصف معارك الانتصار
علموه يبقى سفير الدهر ليهم بالفخار
كان نهار الدنيا ما طلعشي وهنا عز النهار
طوف وشوف
كل دي كانت كنوز الماضي شوف حاضر بلادي
شوف كنوز الثورة فيها والمواهب والأيادي
اللى بيهم سدنا يعلا وفيض الله يزيد
يزحفوا بالميه تخلق م العدم عالم جديد
يكشف سر الصحارى يصهروا عزم الحديد
يوصلوا الدنيا بقنالنا من هنا من بور سعيد
طوف وشوف
الجنود اللى بيحموا مجدنا من كل عادي
الصفوف اللى يبنوا بعزمهم نهضة بلادي
اللى خطوتهم تبوسها ارضنا وتقول ولادي
نادوا بالحرية قام الشعب وأتحدى المحال
والأمل اصبح عمل والخيال اصبح نضال
****
أستعيد مثل تلك الكلمات وتلك الأعمال الراقية كلمة ولحنا وأداء وحبا للوطن ,اتساءل ولعل مثلى كثيرون يتساءلون:ترى هل مات الإحساس بالجمال فى الكلمة واللحن والأداء وأصبح المجد الفنى لفلانة وعلانة أو فلان وعلان مرتبطا بكمية الشائعات والخلافات العاطفية والسيطرة على الساحة بكل السبل الأخلاقية وغير الأخلاقية؟
رحم الله ذلك الزمن وأهله وكل ما قدموه من جمال هادف، ورحمنا من هذا الزمن والمحسوبين فيه على تشكيل وجدان الناس وذائقتهم ولا يفعلون فيه إلا الحرب فيه على كل معنى أو مضمون جميل.
Discussion about this post