نصائح ممدوح عدوان الثلاث
بقلم عماد عبيد
في الزمن الرذيل يصطفيكَ الحزنُ لتؤنسَ وحشته، يتجاسر عليك القهر، تحاصركَ الكآبة وأخواتها، تنخركَ الغصة، وينأى عنك الفرح الخائن، تنفرُ منك اللذائذُ، تتلبسك اللاجدوى، فيستفزك الحنينُ و تتحرض فيك الغدد النوستولوجية، تهرشُ ذاكرتك لتكوّع بمقودك إلى ماضٍ كان بالأمس حاضرا، فتنسلَ من جديلته شعرة بصيص قد ترشدك إلى ثقب في الفضاء المعتكر.
لتعبرَ إلى شرفة حانية، عليك أن تسحن بنَّ الذكرى في محاجر عينيك ليمتزج بفضة الدمع، يسح رويدا فوق تضاريس وجهك التي شكلتها عوامل الحت والتعرية وأعطتك هيبة التكهل، بعد أن ابتزتك السعادة الكاذبة وراوغتك عنوسة الأمل، … هكذا علينا أن نغرف من البئر العتيق بعض سقاء يطفأ ظمأ هذا الانطفاء.
في ميعة الشبابِ، (أواسط التعسينيات) وبكامل أناقتي وقيافتي، ببذلتي الفستقية والقميص الفيروزي وربطة العنق الخضراء بعقدتها المشدودة كأطناب الخيمة، دخلت مطعم القنديل (الليتيرنا) في دمشق، برفقة زميلة لي في سلك المحاماة، (كنت قد تخطيت مرحلة التدريب حديثا وأعيش الفترة الطاووسية لفروسية المهنة).
تشاركنا سويا في دعوى انفصلت بسرعة، وتقاسمنا أتعابها مناصفةً 15 ألف ليرة سورية لكل منا، أكثر من 300 دولار وقتها، فقررنا أن نحتفل مناصفة أيضا بهذا الفوز السريع، فالدعوى خلافا لما عُرف عن القضاء السوري بطول نفسه وسماجة إجراءاته، انحسمت خلال 4 أشهر بعد رضوخ الجهة المدعية لطلبات موكلينا المحقة.
دخلت برفقة زميلتي إلى المطعم، كان الوقت ظهرا والطقس تشرينيا يتنفس من رئة الشتاء، فبعد أن اخترنا طاولة قصية، وقبل أن أجلس، شاهدته على طاولة ليست بعيدة عنا، أمامه كومة من الصحف، يضع نظارة طبية على أرنبةِ أنفه، فبحلق فينا بنظرات غير محايدة.
تذكرت لقائي السابق به قبل حوالي ثمانية أعوام يوم مررنا عليه في نادي العمال خلف سينما السفراء، كنت برفقة شقيقه عدوان طالب الهندسة، وجاري في المدينة الجامعية، وقتها اقترح عدوان أن نمر على النادي لعلنا نجد ممدوح ونحرجه بتضيفينا زجاجة بيرة، فعلا وجدناه، لكنه رفض استقبالنا على طاولته بحجة حديث خاص مع شخص يجلس معه على الطاولة، فجلسنا على طاولة قريبة وشربنا البيرة وغادرنا المكان وهذا كان مرادنا.
ظننت حين شقلنا بنظراته الطولية والعرضية أنه تذكرني بعد ذاك اللقاء الذي بالكاد رأى وجهي، فهممت نحوه وسلمت عليه وكأننا صحبة عمر، وقف الرجل نصف وقفة عن كرسيه ورد التحية بودٍ مقبول، شرعت أسأله عن أحواله، وفورا بادرته برمية استباقية (هل وجدت طريف الحادي) وماذا عن (ليل العبيد) – وهما مسرحيتان له سبق أن حضرتهما على مسرحي القباني والحمراء بدمشق – توسعت حدقتاه بنظرة استغرابية ودعاني للجلوس ، جلست، ثم أومأ لصديقتي التي بقيت وحيدة طالبا منها الانضمام إلينا، ففعلت، نادى على الشيف لورنس وطلب لنا قهوة دون أن يسألنا.
سألته عن آخر أعماله الشعرية والمسرحية وأخبرته أني أتابع مقالاته في مجلة الكفاح العربي، وعرجت على أعماله الدرامية، ثم انتهيت إلى أشعاره وخاصة مجموعته الملفتة بعنوانها (يألفونك فانفر) … مطَّ شفتيه بإعجاب شديد، واستغرب أني أحفظ هذه التفاصيل عنه، كما ذكرته بلقائنا السابق وخطة شقيقه عدوان، فضحك وقال: لقد فعلها مرات هذا المتسكع.
استلم دفة الحديث وتكلم حوالي عشر دقائق، فأخبرنا أنه منشغل هذه الأيام بالترجمات، أما عن الكتابة فكان حديثه طليا وجاريا بطريقة يربط فيها أذن المستمع بشفتيه، وأنه يشجع الشباب بشرط ألا تكون الكتابة لديهم مجرد تسلية، فلتكن مشروعا. وشدد على ضرورة ثقافة الكاتب ومعرفته الفكرية، ثم قال لي أعتقد أنك مهتم أو تكتب في الأدب وهذا واضح من اهتمامك بهذه التفاصيل التي تحفظها عني، فنفيت هذه التهمة الباطلة … وقلت مجرد مهتم … أما ما أكتبه فهو محض خربشات، – خشيت أن يجرني إلى نزال غير متكافئ بالعدة والعتاد – .. صفن لحظة بعد أن غبَّ نفسا طويلا من سيجارته وأضاف: الكتابة همّ، لكنها همٌّ جميل، ولكي تكون على قدر هذا الهمّ أنصحك بالآتي:
• – لا تستهن بقدراتك، فإذا علمت أن شخصا ما قبلك قطف أنجما من السماء، تستطيع أنت أن تفعل مثله، بالإصرار والدأب.
• – إذا بدأت بأي فعلٍ أو مشروع لا تراهن على مساعدة غيرك، ضع برأسك أنك قادر عليه وحدك، وإن جاءتك مساعدة فلابأس، لكن لاتضع نصب عينيك الاعتماد عليها، فلربما خذلك من تعتمد عليه فستفشل ويفشل المشروع وستفشّل غيرك.
• – إذا أنجزت أي إنجاز أو نجاح، فليكن منجزك التالي أفضل من السابق، فإن كان مثله أو أقل منه فأنت تراوح مكانك.
قبل أن ينهي كلامه، دخل الممثل زيناتي قدسية وسلم علينا وجلس إلى الطاولة، ويبدو أنهما كانا على موعد.
في نهاية الجلسة وقبل أن نشكره على ضيافته ونصائحه قال دون أن يبتسم، لاتدع الأناقة تشغلك عن القراء والكتابة … والحب، بهذه الكلمة الأخيرة طفحت حمرة الخجل على وجه صديقتي، شكرناه وعدنا إلى طاولتنا وأعطيته بطاقة فيزيت المحاماة لأعرفه على مهنتي التي لم يسألني عنها، وكي لا ينسى اسمي، فمطّ شفتيه ثانية ووضعه في جيب قميصه، وتركته لأسجل فورا هذه النصائح التي كانت لي خارطة طريق.
لم أكن أعلم وقتها أن زمن ممدوح عدوان كان زمنا مكتظا بالرؤى الخلاقة، يوم كانت الثقافة مرتقى الرانين إلى الذرى العلوية، وأن مثل تلك القامات التي كنا نعتقد أنها عادية أضحت واحدة من المنارات المتوهجة، وأن زمننا المنحط تنحط فيه كل القيم الحياتية والأدب ليس آخرها، فمثل تلك اللحظات الباهرة أضحت عكازا لنا نحن المكسورين الأيلين إلى الهباء.
…..
Discussion about this post