شيخ الوشاحين
عبادة بن ماء السماء
الشاعر الذي حلق بالشعر الأندلسي في سماء الغناء
ليلى الدردوري
من كتابي( كشاف الاسلاف في التاريخ الثقافي العربي )
أبو بكر عبادة المعروف بابن ماء السماء من فحول شعراء القرن العاشر الميلادي، والرابع الهجري، وأبرزهم مكانة في عصره، يضاف إلى ذلك مشاركته في التنجيم وعلم الغناء، وعبادة صاحب قصيدة وموشح، والشائع أن الموشح كان قد بقي على أيامه بسيطا، قليل الإختلاف عن ما عرف من قبل التسميط، فكان عبادة أول من جعل الموشح شكلا من القصيدة قائما بنفسه ثم أحدث فيه التضفير، وبذلك يكون قد أعطى لبناء الموشح صورة وافية كما يبدو من خلال موشحته الغزلية المشهورة التي مطلعها: من لي في أمة أمر ولم يعدل / يعز الألحاظ الرشأ الأكحــــل
ولئن اكتملت على يده بنية الموشح على الحد الذي وصفه فيه إبن بسام في (الذخيرة) ب(شيخ صناعة التوشيح) من حيث التخريجة الفنية والإيقاعية التي توفق فيها إلى جعل الشعر الأندلسي يحلق بأجنحة الغناء، وفق ما أضفاه عليه من ذوق سمعي، وحس موسيقى بتأثير من شيوع الغناء وازدهار الموسيقى في الأندلس في أواخر القرن الثالث الهجري، واحتكاك العنصر العربي بالعنصر الإسباني، وبوازع تكملة مشروع التوشيح الذي إقترن ذكره بمخترعه، ومبتدع طريقته في الأندلس (مقدم بن معافر القبري) وهو واحد من شعراء فترة الأمير عبد الله، وكأن الشعراء الأندلسيين أحسوا تخلف القصيدة الفصيحة بثوابتها النصية والإيقاعية الضاغطة، أو استشعروا حدود الشكل التقليدي الصارم إزاء النغم في حاضرة التجدد المرن، وفي ربطه بتأثرهم بالأغاني الإسبانية الشعبية المتحررة من الأوزان والقوافي وهو الأمر الذي إنتهت إليه صيغة هذا الفن الفريد الذي أصبح على يد عبادة بن ماء السماء فنا قائما بذاته من حيث جعله الموشح متعدد الدوائر الشعرية والحركة الإيقاعية الداخلية على المحو التالي:
جرت في حكمك في قتلي يا مسرف
فأنصف فواجب أن ينصف المنصف
وأرأف فإن هذا الشوق لا يرأف!
علل قلبي بذاك البار السلسل
ينجلي ما بفؤادي من جوى مشعل
إنما تبرز، كي توقد نار الفتن
صنما مصورا في كل شيء حسن
إن رمى لم يخط من دون قلوب الجنن
كيف لي تخلص من سهمك المرسل
فصلني واستبقني حيا ولا تقتل
يا سنا الشمس ويا أبهى من الكوكب
يا منى النفس ويا سؤلي ومطلبي
ها أنا حل بأعدائك ما حل بي!
عذلي من ألم الهجران في معزل
والخلي في الحب لا يسأل عمن بلي
أنت قد صيرت بالحسن من الرشد غي
لم أجد في طرفي! حبك ذنبا علي
فاتئد وإن تشأ قتلي ، شيئا فشي
أجملن ووالني منك يد المفضل
فهي لي من حسنات الزمن المقبل
ما إغتدى طرفي إلا بسنا ناظريك
وكذا في الحب ما بي ليس يخفى عليك
ولذا أنشد والقلب رهينا لديك
سلطت جفنيك على مقلتي فابق
لي قلبي وجد بالفضل يا موئلي
وبهذا تبدو صيغة الموشح ذات طابع فني في تطويع الشكل الشعري لمقتضيات الغناء، وإخضاعه لدواعي موسيقية بإمتياز، وهو أمر يرجح إحتمال أن يكون (زرياب) الشاعر والملحن في رأي البعض من أشاع هذه الصيغة الفنية لباعه الطويل في الأذواق الموسيقية المحلية، ووقوفه على المتطلبات الجمالية للفن الغنائي في الأندلس، وهو رأي بيانه ولع الأندلسيين بالموسيقى، وكلفهم بالغناء منذ قدم عليهم (زرياب) وأشاع فيهم فنه، بدليل أن فن التوشيح هو الفن الذي استمر منذ التجديد الشعري الذي شهدته مدرسة (زرياب) حتى غاية سقوط غرناطة في القرن التاسع الهجري (897 هـ)، هذا مع العلم بإرتفاع ترجع الموشح الأندلسي إلى أصول يمنية، وتعتبره إمتدادا للموشح الحميني الذي لا يزال يقرض في اليمن إلى اليوم، إلا أنه لا يمكن الجزم بذلك لعدم خروج دواوين رواد الشعر الحميني حتى حدود الآن، وهو أمر يفضي إلى التساؤل حول كيفية انتقال الموشح الأندلسي إلى المشرق وفضل الوشاح الأول (ابن سناء الملك) المتوفى سنة (608 هـ) في تعريف المشارقة بهذا الفن بعدما وضع كتابه (دار الطرز في عمل الموشحات) وهو أيضا صاحب قصائد رقيقة في هذا الفن، وصولا إلى الشاعر المصري (ابن النبيه)، ومحمد بن سليمان المعروف ب (الشاب الظريف) المتوفى سنة (688هـ) في دمشق، و(صدر الدين بن الوكيل) وإنتهاء إلى الأسماء الشهيرة من النصف الأول من القرن الثامن للهجرة وضمنهم (الصلاح الصفيدي) المتوفى بدمشق سنة (764هـ) دون إغفال شاعر العراق المعروف (صفي الدين الحلي) المتوفى سنة (750 هـ) مع أن ديوانه فيه تكلف ولزوم ما لا يلزم، وبدليل أن المشارقة استمروا ينظمون الموشحات حتى غاية عصر النهضة، ومع إجماع الأقدمين والمحدثين على أسبقية عبادة في صنعة التوشيح ودوره في تضفير الموشح، فإن له شعر ووصف ومديح وغزل وخمريات ورثاء منه مرثيته في ابن زيدون وكان قد توفي في ضيعة فنقل تابوته إلى قرطبة وفيه قوله:
أي ركن من الرياسة هيضــــــــــا
وجموح من المكارم غيضــــــا
حملوه من بلدة نحو أخـــــــــــرى
كي يوافوا به ثراه الأريضــــــا
مثل حمل السماء ماءا طبيبـــــــا
لتداوي به مكانا مريضـــــــــــا
يبقى أن عبادة بن ماء السماء مؤسس صنعة التوشيح بشهادة التصنيف التاريخي العربي والأندلسي، وواضع توابثه على الصورة النهائية التي منها كذلك قوله في موشح طويل:
حب المهــــا عبادة من كل بسام الســــوار
قمر يطلـــــــــــــع من حسن أفاق الكمـال
حسنه إبــــــداع
رشيقة المعاطــــف كالغصن في القــــوام
شهدية المراشــــف كالذر في نظــــــــــام
ذو عصية الروادف والخصر ذو انهضــام
جوالة القــــــــلادة محلولة عقـــــد الإزار
حسنها أبـــــــــد
Discussion about this post