بقلم الكاتب …. كمال العرفاوي
وقفت سلمى في فناء منزلها المتواضع في شموخ و كبرياء كنخلة باسقة، جذورها في الأرض و رأسها في السّماء، رغم
ما تعانيه من فقر و فاقة و خصاصة.هي امرأة سمراء البشرة ، مقبولة الجمال. كانت ترتدي عباءة سوداء ذهب لونها، تستر كامل جسدها، و تغطّي رأسها بخمار أسود ينسدل على كتفيها،
و يغطّي كامل صدرها، فيضفي عليها مسحة من الشّرف
و العفّة و الطّهارة..هي أمّ في عقدها الثّالث من العمر، لكنّها تبدو و كأنّها في عقدها الرّابع بعد أن ترك شظف العيش آثاره الظّاهرة على محيّاها. كانت تحمل بيدها اليسرى ابنتها الوحيدة بسمة الّتي لا يتجاوز عمرها السّنتين. هي بنت سمراء مثل أمّها، وجهها جميل، مستدير كالقمر، لها ابتسامة ساحرة تشرح الصّدر الضّيّق و تنعش الفؤاد العليل. لها بريق في عينيها يشعّ نقاءً و براءة…
خلف المرأة بيت متواضع مبنيّ من الطّوب المصنوع
من خليط من الرّمل و الحصى و الإسمنت، سقفه صفائح من قصدير، وُضِعت فوقه بعض الأغراض القديمة لتثبيته، و قد شُدَّ إليه حبل يربط بينه و بين الجدار المبنيّ بنفس نوع الطّوب، علّقت عليه المرأة بعض الثّياب الرّثّة المغسولة كي تجفّ.. على الجدار يستند باب حديديّ قديم يعلوه بعض الصّدإ، أمامه قارورتا غاز، إحداهما صدِئة غير صالحة للاستعمال، و الأخرى جديدة مطلية بدهن رماديّ اشتراها لها جارها الطّيّب مسعود منذ أسبوع. على يسارهما موقد غازيّ اكل الدّهر عليه و شرب تستعمله المرأة الفقيرة لطبخ ما يسدّ الرّمق من الطّعام الّذي تشتريه بما تكسبه من مال قليل مقابل عملها لبضعة أيّام أسبوعيا كمعينة منزلية تنتقل بين منازل الأسر الميسورة للقيام بأعمال التّنظيف الشّاقّة، و بجانبه خزّان ماء قديم لسخّان شمسيّ معطّب يُستعمَل لحفظ الماء الصّالح للشّراب…
هي صورة واضحة تروي مأساة عائلة فقيرة تسكن بيتا متواضعا على وجه الفضل من فاعل خير أصرّ على مساعدتها بعد أن غادرت منزلها الّذي عجزت عن تسديد معلوم كرائه،
و لكنّها عائلة طاهرة عفيفة شريفة.. فقدت عائلها الوحيد منذ سنة تقريبا أثناء الحرب الدّائرة رحاها منذ ثلاث سنوات. فبقيت سلمى و ابنتها تتجرّعان مرارة الفقر والاحتياج
و الحرمان..
كانت المرأة شاخصة ببصرها تسترجع ذكريات الماضي القريب، و قد توقّفت ذاكرتها عند مشهد ذلك اليوم الحزين الّذي ودّعها فيه زوجها مع ابنتها الملاك بسمة للذّهاب إلى معسكر التّدريب متطوّعا للدّفاع عن وطنه الحبيب ضدّ العدوّ المعتدي الغاشم الجبان، و الدّموع تنهمر من مقلتيها انهمارا،
و تسيل على وجنتيها حارّة أنهارا لتحرق قلبها الضّعيف المُنهار.. و فجأة طُرق الباب!..و يا للمفاجأة!..إنّه إبراهيم زوجها!.. إنّه هو بلحمه و شحمه!.. لم تصدّق عينيها!.. فركتهما بيديها فركا لتتحقّق من الأمر.. بقيت متسمّرة في مكانها
و قد انعقد لسانها.. لم تنبس ببنت شفة من وقع المفاجأة المذهلة!..
مرّت لحظات الاندهاش بطيئة كأنّها ساعة، و الجميع في صمت و وُجوم، فارتمى إبراهيم مُحتضنا زوجته سلمى
و ابنته بسمة بكلّ حرارة و حبّ و قد اختلطت دموع الجميع فرحا، و سرت في أجسادهم قشعريرة مشوبة بدفء
و حميمية اللّقاء، فكان الزّوج يقبّل زوجته من جبينها تارة،
و يلثم وجنتي ابنته أخرى و هو يسأل عن أحوالهما بكلّ لهفة و شوق.. و لمّا هدأت الزّوجة سألت زوجها عمّا حدث له، فأخبرها بأنّه وقع في الأسر مع مجموعة من رفاقه بعد أن استبسلوا في الدّفاع عن موقعهم حتّى نفذت ذخيرتهم، فانقطعت أخبارهم عن الجميع، و ظنّوا أنّهم استُشهدوا في الغارة الجوّية الّتي نفّذها العدوّ الغاشم على معسكرهم حيث انتشرت أشلاء الضّحايا في ساحة الوغى، و صعُب التّعرّف على أصحابها، و لم ينج من هذه المعركة إلّا هو و ثلاثة من أصدقائه…لقد وقع إطلاق سراحهم بعد مفاوضات عسيرة في عملية جديدة لتبادل الأسرى..و هي الّتي كانت تظنّ أنّه ذهب بلا رجعة بعد أن تمّ إعلامها خطأً باسشهاده في أرض المعركة في حرب ضروس بين الإخوة الأعداء.دفع فيها زوجُها نفسَه للوطن فداء لينعم السّادة بالكراسي و الجاه و الهناء، متناسين أسرة أنهكها البؤس و الحرمان و الشّقاء..
بقلم الكاتب ….كمال العرفاوي
في 13 / 05 / 2023
Discussion about this post