بقلم الكاتب الصحفي
سعيد الخولى
من الطبيعي أن تسفر الإضطرابات التى تسود مناطق من العالم عن مشاكل تقلص فرص العمل بالعالم، لكن الوجه السيئ لتكنولوجيا هو الآخر لم يفوت الفرصة وبدأ يكشر عن نفسه بالتبشير بمزيد من البطالة بل وتهدي العقل البشرى، فقد نشر المنتدى الاقتصادى العالمى تقريرا مؤخرا توصل فيه إلى أن سوق العمل العالمى سوف يتأثر ببعض الاضطرابات الهائلة على مدى الخمس سنوات المقبلة، مما سيؤدى لاختفاء 14 مليون وظيفة بالعالم، وكشف المنتدى الذى يستضيف تجمعا للقادة العالميين فى دافوس بسويسرا كل عام، أن أصحاب العمل يتوقعون خلق 69 مليون وظيفة جديدة بحلول عام 2027 وإلغاء 83 مليون وظيفة، مما سيؤدى لضعف الاقتصاد العالمى ماعدا الشركات التى تعتمد على التقنيات التكنولوجية المختلفة مثل الذكاء الاصطناعى ورأى التقرير الذى يستند إلى استطلاعات لأكثر من 800 شركة أن انتشار الذكاء الاصطناعى سيكون بمثابة قوة إيجابية وسلبية، لأن الشركات ستحتاج إلى عمال جدد لمساعدتها في تنفيذ أدوات الذكاء الاصطناعى وإدارتها، لكن فى الوقت نفسه، ستتعرض العديد من الوظائف للخطر، حيث تحل الروبوتات محل البشر فى بعض الحالات وتوقع التقرير انخفاض وظائف حفظ السجلات والوظائف الإدارية بمقدار 26 مليونا عام 2027، كما أنه من المتوقع أن تشهد وظائف إدخال البيانات والأمناء التنفيذيون أكبر الخسائر.
وفى سباق طردي فإن التقدم فى أبحاث الذكاء الصناعى لا يتوقف، وفى ذات الوقت فإن التحذير من مخاطره لا يتوقف أيضاً.. فنحن أمام ثورة يقوم فيها “الروبوت” بأعقد التحليلات، ويدخل إلى مناطق الإبداع والابتكار. ولا يكتفى “الروبوت”، الآن بالإجابة على الأسئلة استنادا إلى ما لديه من بيانات، وإنما بات أيضا يكتب الشعر ويؤلف الموسيقى ويقرأ نشرات الأخبار فى التليفزيون. وأخطر ما توصلت إليه الأبحاث أن يستطيع “الروبوت”، أن يقرأ ما يدور فى رأسك من أفكار وأن يترجمها إلى كلمات تكشف كل ما تفكر فيه”!!” وهو ما يثير المخاوف بشدة بشأن الحفاظ على الخصوصية والحرية والفردية.
ورغم أن الشركات الكبرى العاملة فى هذا المجال تقول إنها ستلتزم بالضوابط الأخلاقية، لكن المخاوف تزداد. حتى أننا تابعنا الصراع بين العلماء ومطوري برامج الذكاء الاصطناعى بين دعاة للتوقف وبين مطورين لايأبه بعضهم التهديد الإنسان في أهم مايملك وهو العقل، وفى مارس الماضى رأينا حوالى ألف من الخبراء والمستثمرين فى هذا المجال ومنهم الملياردير أيلون ماسك يطلبون التوقف مؤقتا عن تطوير أنظمة الذكاء الصناعى حتى يجد الخبراء وسائل التأكد من سلامتها. ولم تتوقف التحذيرات من أن مئات الملايين من الوظائف ستختفى ليحل محلها “الروبوت”، لكن الخطر الأكبر يظل فى أن يتحول “الروبوت”، مع التقدم فى أبحاث الذكاء الصناعى إلى وحش يخرج عن السيطرة!
ثم خرج منذ أيام واحد من أشهر الخبراء فى هذا المجال ليطلق صيحة تحذير بالغة الخطورة لأنها تصدر من “جيفرى هينتون”، الذى يلقبونه بـ”عرّاب الذكاء الصناعى”، لدوره الهام فى ابتكار الأنظمة الحديثة. خرج الرجل الذى استقال من منصبه الهام فى شركة “جوجل” قبل شهر واحد ليقول في حوارات مع صحيفة النيويورك تايمز وإذاعة البي بي سي إن التطور بدون ضوابط يحمل مخاطر هائلة على المجتمع والإنسانية، وليدق جرس الخطر من أن هذه الأنظمة الحديثة تتفوق على الذكاء البشرى فى بعض النواحى بسبب كم البيانات لديها. لم يعد الخطر فى فقد ملايين الوظائف فقط، ولا فى كم المعلومات المضللة التى يمكن أن تطلقها “الروبوتات”، الخطر الأهم أن يتفوق الذكاء الصناعى على الذكاء البشرى.
يذكر أن جيفرى هينتون صاحب الاسم المعروف فى العالم كله، هو من أوائل الذين اخترعوا ما يسمى بتكنولوجيا “الذكاء الاصطناعى”. ففى عام 2012، أنشأ واثنان من طلابه الخريجين فى جامعة تورونتو تكنولوجيا أصبحت نواة لما يجرى في العالم كله من برامج الذكاء الاصطناعى..
علق جيفرى هينتون على المخاوف المتزايدة من الأمر وهم من يقومون بتصميم وتطوير تلك البرامج: التوقعات التى وصلت إليها الآن أن نوع الذكاء الذى نطوره يختلف تماما عن الذكاء الذى لدينا نحن البشر. نحن نعيش بأنظمة بيولوجية طبيعية، والذكاء الاصطناعى مكون من أنظمة رقمية. والاختلاف الأساسى بينهما هو أن الذكاء الاصطناعى لديه العديد من النسخ من نفس مجموعة الأوزان، ذات النموذج للعالم، وكل هذه النسخ يمكنها التعلم بشكل منفصل لكنها تتشارك المعلومات بشكل فورى.
كأن لديك عشرة آلاف شخص، فى اللحظة التى يتعلم واحد منهم شيئا، يعرفها الآخرون بشكل آلى، وهذا هو السبب فى أن هذه الأجهزة تعلم أكثر بكثير مما قد يعرفه أى شخص فى العالم ، ونظرا لسرعة التطور، نتوقع أن يحدث ذلك بشكل سريع جدا. ولهذا فعلينا أن نقلق إزاء هذا الأمر.
وأكد جيفرى مخاوفه قائلا: حاليا الذكاء الاصطناعى ليس أذكى من الإنسان، لكنه قد يصبح كذلك قريبا. جيفرى استقال من وظيفته فى جوجل حيث عمل لأكثر من عقد، ليتمكن من التحدث بحرية عن مخاطر الذكاء الاصطناعى. ذلك الذى اعتبره الخبراء فى صناعة التكنولوجيا نقطة تحول هائلة، بل يصنفونها باعتبارها النقلة التكنولوجية التى سوف تغير وجه العالم. وأنها الأهم منذ عقود حيث يمكنها أن تسهم بشكل هائل فى الأبحاث العلمية، والاكتشافات الطبية وغيرها من المجالات.
هذا هو الوجه الجميل للاختراع أما الوجه القبيح الذى استقال الرجل لكى يبرئ نفسه ويريح ضميره من ذنبه فهو أن البعض سوف يستخدم هذه الوسيلة فى إطلاق معلومات خاطئة، ولأهداف مغرضة.
هذا الحوار الذى تناقلته وسائل الإعلام والمحللون بمزيد من المخاوف هو بالفعل يثير موجات من التشكك تجاه مستقبل البشرية إزاء ما تفرزه تلك التكنولوجيا ذات الوجهين المتناقضين التى هي من إنتاج عقل الإنسان ذاته، فهل يفكر العلماء لإنتاج راحة البشر ورفاهيتهم بنصف عقلهم بينما النصف الآخر يلغي تفوق فكر الإنسان على الآلة والعقل الافتراضى لبرامج الذكاء الاصطناعى، لقد أصبحنا أسري للواقع الافتراضى ولاندرى كيف سيكون واقع الإنسان الفعلى في هذا الصراع الذى لانهاية له غالبا إلا بعودة إنسان النهاية أسيرا خائفا من ناتج رحلة بحثه العقلية الطويلة في الدنيا بحثا عن الأفضل حينا وعن الأكثر رفاهية ومتعة حينا ثانيا وعن المجهول بقية الاحيان، وقد بدأ إنسان البداية حياته الأولى هائما على وجهه فى البرية باحثا عن مكان يأوى إليه وطعام وشراب يحفظان حياته.
من يعيد العقل لبرامج الذكاء الاصطناعى؟
Discussion about this post