ياليلة العيد ..
بقلم الكاتب الصحفي… سعيد الخولى
كلما شاهدت مشهد الفنان سمير غانم فى مسرحية “المتزوجون”وهو يحمل الليفة الكبيرة وخلفه الفنانة شيرين استعدادا للاستحمام وهو يغنى داخل الحمام “المية تروى العطشان..وتطفى نار ال….” – كلما شاهدت هذا المشهد ودخلت إلى حمام بالقرية لأخذ حمام سريع بعد الوصول من السفر ـ تداعت إلى خاطرى تفاصيل الحمام زمان وقت الاستحمام وليس بالطبع قضاء الحاجة،وأدركت الفارق الزمنى الضيق على التطور الهائل لهيئة الحمام زمان والآن ومفردات حمّام بالطشت والليفة الخشونة من ليف النخيل والصابونة نابلسى والصفيحة الملأى بماء ساخن جرى تبريد سخونته ببعض من الماء البارد،كل ذلك بات من التراث المنسى حاليا بضغطة على ذراع الماء الساخن للدش الذى لم يعرفه الأجداد، ثم تبريد وتلطيف للمياه بتحريك الذراع لمنتصف المسافة،أو إلى اليمين تماما لمن اعتاد الماء البارد لحمامه مثلى ـ صيفا أو شتاء ـ ولمن عاش مثلى طقوسا صعبة لحمام ليلة العيد لاتنمحى من الذاكرة تلك الطقوس خاصة لأبناء الريف.
وعلى بعد أعوام عديدة في حدود نصف القرن لم يكن مايجمعنا بالحاضر فى ذات الليلة سوى بيان دار الإفتاء عبر أجهزة الراديو الضخمة قليلة الوجود بدور القرية،وبعد ثبوت الرؤية تصدح كل دور القرية التى تمتلك راديو باغنية ام كلثوم الشهيرة “ياليلة العيد آنستينا”،تنطلق من داخل الدور ومن الدكاكين بكلوباتها العتيقة وأصوات الرتينة التى تشع مع الضوء صوتا يشبه الفحيح يرفع أصحابها صوت أجهزتهم،الخطوات متبادلة بين داخل لداره ليبلغ أهله وخارج منها يستطلع الأخبار أو متوجها لصلاة العشاء أو ذاهبا للخياط يستعجل جلبابه الجديد أو جلابيب أولاده لتبيت معهم ساعات الليل..هى ليلة العيد إذاً وقد باغتت من كان يظن أن رمضان سيكتمل،وتنعقد جلسة التهنئة الأولى بالتئام شمل الكبار العائدين من الزاوية وقد جمعتهم المصطبة يتبادون أطراف الحديث وبعض الذكريات والقفشات وبرنامج الغد وهل سيحتاج الأمر لمن يذهب للغيط بعد ساعتين العيد.
هكذا كانت الأمور على باب دار العيلة ونحن نستجمع شتات أنفسنا من ليالى رمضان ونجلس على مقربة من الكبار نتابع سمرهم وأحاديثهم ونتفق على ما سنفعله صباحا،وهل كان ما سنفعله صباح العيد يحتاج اتفاقا وترتيبا والأمر كله معروف أوله وآخره؟
أما داخل الدار فالأمر يختلف وكأنما بوغت الجميع أن هناك عيدا صباح اليوم التالى،وكان أكثر ما يثير الضوضاء والجلبة تحميم الصغار واستحمام الكبار،فالصغار يتحولون إلى هدف للأمهات والليفة المعتادة أو ليفة النخيل المدورة القاسية غالبا على الأجساد الصغيرة،كل عدة الأم حلة مياه نحاسية على الكانون سوداء الجسم الخارجى بفعل تعرضها الدائم لنيران الكانون ووقودها الحطب وأقراص الجلة ،بينما باطن الحلة نحاسى يميل مابين الاصفرار والاحمرار،أما مكان الملحمة فهو حمام قاعة الجد أو “المحمّ” كما كانوا يطلقون عليه ..هى ليلة حملة النظافة،ليس لأغراض الدار ومقاعدها وقاعتها ومندرتها،بل ليلة الحموم والعذاب للأمهات مع الصغرا وللصغار مع الماء الساخن والطشت النحاسى القديم والليفة الخشنة من النخيل والصابونة عديمة الرائحة،فالصابون المعطر كان ترفا غير متاح للجميع،وتصب الأم الماء ممزوجا ساخنه ببعض بارده على رأس الصغير الذى يحاول التملص والإفلات من يدى أمه اللتين تلاحقانه واحدة تصب بعض الماء والأخرى ترغى الصابونة فوق شعره ،لتلاحقها بتلييف جسمه من اعلى لأسفل وجسده الغض يتلوى ويتملص بمائه وصابونه واليدان تترجمان غضب الأم ونفاد صبرها بتثبيته عنوة أو قرصة من “لباليبه”أو خبطة فى أم رأسه،حتى يختار المسكين أخف الأضرار فيستكين مستسلما وهو يستقبل ماء الشطف من الصابون ويحس بانزياح الكابوس،فإذا حاو تفتيح عينيه ليرى ضوء الحجرة الباهت تسربت آثار الصابونة إلى عينيه فأصيب بحرقان لايدري معه هل يدعك عينيه فيزيدهما بيده الغارقة فى الصابون،أم يدفع عنه يد أمه الضاغطة على ذراعه اللينة وجسده الطرى المزحلق.
حمام ليلة العيد ..طقس لم تخل منه دار ولم تسلم من صرخات استغاثة الصغار حجرة أو حمام بها،وحين يبلغ الفتى مبلغه والفتاة بعض أنوثتها يأخذ الحياء كلا منهما فينحى احتياجه للأم جانبا ولايطلب منها سوى إعداد الماء الساخن وحلة أخرى بماء بارد وكوز ليخلط به الماءين ويصب على نفسه كيفما اتفق،لكنه دائما لايحصل على حمام و”مرشة”يماثلان تحميم الأم ومرشها له،لكنه على أى الأحوال يمتلك إحساسه بنفسه وتقديره لما يريحه هو..
ولابيقى من ليلة العيد سوى سويعات قليلة تخلد الأم المرهقة فيها لبعض من الراحة وينام الصغير ملء عينيه وهو يحلم بالصباح واللبس الجديد والعيدية واللعب مع أقرانه،وصدق من قال “حموة بليفة ولا فرخة بتكتيفة”.
هكذا كانت ليلة العيد فى دار العيلة العتيقة التى تظهر بالصورة ومازالت قائمة تحكى لكل من تربى فيها قصة الحياة بين أجيال تفاوتت بين الحمام البلدى والدش الأفرنجى وصولا للبانيو ومعها لقطات للجد والجدة والاعمام والأحفاد في جلسات عائلية أمام القاعة التى شهدت سنوات الحب والذكريات الغالية لزمن جميل بأهله وبساطته وذكرياته ..وكل عام وأنتم بخير
Discussion about this post