الكينغ يكتب
مُنكر..ونكير.. وفلادمير
ظننتهما مُنكرًا ونكيرًا، وزميلًا لهما يرافقهما للاحتياط، ويبدو أننّي نمتُ يومها فعلاً (سكران)؛ كوني تجرّعت للمرة الأولى في حياتي، وكنت في التاسعة عشر من العمر، من زجاجة فودكا، مع صديقي المرحوم الشاعر الصعلوك رضا الجلالي، أمام المسرح البلدي بشارع الحبيب بورقيبة سنة 1988
ضربني منكر على ما أظن – كونه من جهة اليمين – على كتفي، وسألني – مُكفهرًّا- سؤالًا، لم يصل منه إلى سمعي سوى عبارة: “ربّك”، فظننت أنّه يسألني: “مَن ربكّ؟”، واستحضرت فورًا ما علمني جديّ صالح – رحمه الله – فأجبته كتلميذ متحفّز يعرف الإجابة:
– ربّي الله، ومحمد رسولي.
فشاطني نكير – بالتأكيد – وركلني في بطني، وسألني مجددًا، ولكن هذه المرة بوضوح لا تخطئه الأذن:
– ماذا تفعل هنا يا ولد القحبة؟
والحقيقة، استغربتُ بعض الشيء أنّ الملائكة تتلفّظ بهذه العبارات التي نحيّي بها نحن بعضنا البعض في العاصمة، ولكنني رددت مذهولًا:
– من المفروض أنكم تعرفون، وأين رضا الجلالي الحيوان؟
وما ترى عينك إلا النوّر…
تقدّم الثالث المرافق لمنكر ونكير، ولم أكن أعرفه؛ لأنّ جدّي – رحمه الله – كان يصرّ على أنّهما اثنان فقط؛ مُنكر ونكير، ورفعني ككيس من الزبالة من ياقة معطفي، ولم أكد أستوي على نصف الأرض بنصف قدمي حتى أيقظ وجهي الناعس بصفعة، حسبت لثوان بعدها أنني يمكن أن أستوعب نظرية الانشطار، والنسبية، والجيوب الزمنية الموازية، وأن أزيد عليها من عندي.
شيء… سبحان الله…
سمعت صوت أذان كلّ مساجد الأرض، وسمعت الملائكة تسبحّ، كلٌّ بصوته، وزقزقت عصافير الأرض جميعها في أذني فتبسمت.
وحين استفقت بعد ثلاثة أيام، وكتفي مخلوع، وحنكي متورّم، وعيني مثل الباندا، محاطة – بعناية – بدائرتين داكنتين، وثلاثة أضلع مهشّمة، ووجع مرعب في خصيتيّ.
فهمت، بل والله تأكّدت بما لا يدع مجالًا للشكّ ولو للحظة، أنّهما لم يكونا مُنكرًا ونكيرًا، وأنني تسرّعت، وما كان عليَّ أن أبتسم، أو أن أظنّ أنني كنت في الطريق إلى الجنة لمجرد أنني سمعت أصوات عصافير وفهمت نظرية الانشطار والنسبية خلال ثوان.
وعرفتُ ماذا ينبغي عليَّ أن أفعل…
كانت السفارة الروسيّة قبلها بشهر قد عرضت عليَّ منحة للدراسة بموسكو؛ كوني أفضل الطلبة بحصص تعليم اللغة والأدب الروسي بسفارتهم في شارع الحرية بالعاصمة.
تضرعت للطبيب لكي يسمح لي بمغادرة المستشفى على مسئوليتي، واتجهت فورًا إلى مبنى السفارة، وحين قابلني فلادمير نيكولاي بيتروفيتش، نائب السفير، الذي كان أيضًا أستاذي في حصة الأدب الروسي الكلاسيكي بتلك الدورة، وكان يحبني جدًّا، ويهديني الفودكا كلما زرته في بيته، ويطلب من زوجته أن تطبخ لي شوربة كرنب بالسميتانا، ويقطع لي (الكالباسا) بنفسه، بسكين روسي صغير، قبضته من العاج…
ذُعر حين رآني على تلك الحالة، وصرخ فيّ بالروسية:
شتو ؟؟…
كتو ؟؟…
باتشيمُو ؟؟…
كَاكْدا ؟؟….
وتعني: “ماذا؟… مَن؟… لماذا؟… متى؟”.
كان يخربط في الكلمات ولا يُجمّع بصراحة…
وخانتني الدمعة فجأة، فارتميت على صدره أنشج…
أجبته بجملة واحدة: بربك، أريد السفر فورًا إلى موسكو للدراسة.
وهذا ما كان…
سفّروني بعدها بخمسة أيام، وأعطاني فلادمير نيكولاي مائة وخمسين دولارًا، ومحفظة جلدية، وعناوين، وبكى وهو يودعني في المطار، وبكت زوجته، وبكت ابنتهما الوحيدة ماتشكا.
وهمس في أذني قائلًا:
– أنتَ ابن الله، وجمرة موقدة من السّماء. لا تُعطهم الفرصة لإطفاء جمرة الله ونوره فيكَ، رجاء، لا تعُدْ إلى تونس إلا كاتبًا كبيرًا، أو اسمًا يسبق الرّسمَ. وتذكّر… أنت وطنكَ… وبلادكَ سطرٌ في قصيدٍ، دوّنه إن شئتَ، أو ببساطةٍ إحفظه في صدرك، ولكن لا تجعله أكبرَ منكَ، فتضيع أنتَ، ويضيعُ وطنكَ.
فلادمير نيكولاي بيتروفيتش، ماتَ مقتولًا هو وابنته وزوجته بعدها بثلاث سنوات فقط في الطريق الجبليّ بقرية تافهة بالوسط التونسي. ذهب ليزور قصرًا رومانيًّا قديمًا، فعجنته شاحنة مليئة بأنابيب الغاز في الطريق، ولم يخرجوه من سيارته إلا قطعًا اختلطت بالكاوتش وجسد زوجته.
حين سمعت الخبر أيامها وأنا بموسكو سنة 1991، لم يكن من الممكن أن أبقى في روسيا أكثر. ولكن بسبب صورة مُنكر ونكير التي لم تفارق ذاكرتي أبدًا؛ اخترت ألا أعيش في تونس، وأن أضرب في الأرض مُحتجًّا.. وقد كان.
(كمال العيادي الكينغ)
Discussion about this post