الأذن تعشق قبل العين أحيانا (3)
موكب الرضا والنور
بقلم الكاتب الصحفي … سعيد الخولى
مافات تناولنا فيه مجمل إنتاج أبى فاشا الشعرى والدرامى والبرامجى،لكن بالنسبة لى كانت قصائده الصوفية في الفيلم الشهير”رابعة العدوية” من أجمل وأرق ماكتب وتغنت به أم كلثوم دون أن تظهر في الفيلم، وظهرت بطلة الفيلم نبيلة نبيلة عبيد كوجه جديد وكأنها هي التي تغنى،فكانت مفارقة كبرى وواسعة بين صوت أم كلثوم وأداء نبيلة عبيد بحركة الشفاه. وليتها اعتزلت بعد هذا الدور!
لقد غنت أم كلثوم عدة قصائد بالفيلم المفروض أن بعضها على لسان رابعة العدوية
،وكانت أشهر أغنيات أو قصائد الفيلم “عرفت الهوى” كلمات: السيدة رابعة العدوية، والشاعر طاهر أبو فاشا، وألحان: رياض السنباطى، وغناء كوكب الشرق أم كلثوم.. هذا الفيلم قدمته السينما المصرية عام1963،وكلمات القصيدة بدأت ببيتين وضعهما طاهر أبو فاشا الذى لم يجد بدا من تأليف مدخل للقصيدة فكان هذان البيتان :
عـرفت الهـوى مذ عرفت هـواك وأغـلـقـت قلـبـى عـمـن سـواك
وكــنت أناجيـــك يـــا من تــرى خـفـايـا الـقـلـوب ولسـنـا نـراك
ثم كانت الأبيات التي هي في الأساس كلمات رابعة العدوية الملقبة بشهيدة العشق الإلهى ،لتأتى بقية الأبيات التى عثر عليها أبو فاشا متناثرة فى كتب الشعر والأدب العربى القديم :
أحبـــك حـبـيــن حـب الهـــــوى وحــبــــا لأنـــك أهـــل لـــذاك
فــأما الــذى هــو حب الهــــوى فشـغلـى بـذكـرك عـمـن سـواك
وأمـــا الـــذى أنــت أهــل لــــه فكـشـفـك للـحـجـب حـتـى أراك
فـلا الحـمد فـى ذا ولا ذاك لـــى ولـكـن لك الـحـمـد فـى ذا وذاك
ثم يعود أبو فاشا ليكتب جريا على الأبيات السابقة عطفا على أحبك حبين:
وأشتـاق شوقيـن.. شوق النـوى وشـوقا لقرب الخطــى من حمـاك
فأمـا الــذى هــو شــوق النــوى فمسـرى الدمــوع لطــول نـواك
وأمــا اشتيـــاق لقـــرب الحمـــى فنــار حيـــاة خبت فــى ضيــاك
ثم يختم بالبيت الأخير.. على لسان رابعة:
ولست على الشجو أشكو الهوى رضيت بما شئت لـى فـى هداك
هكذا كان ميلاد هذا العمل البديع في تأليفه الذى يشهد بعبقرية شعرية فنية وروح صوفية عالية لديه وسط مجموعة من القصائد المغناة في ذلك الفيلم ومن قبله في مسلسل إذاعى بنفس الاسم”رابعة العدوية” مثل: (على عينى بكت عيني)، (لغيرك ما مددت يدا)، (يا صحبة الراح)، (حانة الأقدار)، والأخيرة لها حكاية فقبل بداية ظهور الأغنية في الفيلم، جاءت القصيدة كأغنية لأم كلثوم في المسلسل المذكور “رابعة العدوية”، للشاعر أبو فاشا، ووضع ألحان أغانيه “رياض السنباطي، وكمال الطويل، ومحمد الموجي”، وغنته “أم كلثوم”، وأخرج المسلسل عثمان أباظة آنذاك.
ولكن بعد أن سُجل العمل بالفعل، عُرضت الحلقات على لجنة ضمت أم كلثوم، والتي رأت أن صوت الممثلة المرشحة للتمثيل لا يتناسب مع صوتها عندما تغني، واقترحت أن تقوم بالأداء والتمثيل الفنانة سميحة أيوب، والتي كانت متألقة على خشبة المسرح الشعرى، وسمعتها أم كلثوم وأٌعجبت بها وقام بتلحينها الموسيقار الراحل محمد الموجى وللحن حكاية يذكره المحلل الموسيقى: محمد الآلاتي ،حيث يقول:
عندما سمعت أم كلثوم اللحن من محمد الموجى .. إستعادته مرة أخرى .. وعندما إنتهى .. إستعادته مرة ومرات
فخشى الموجى أن يكون باللحن شيئ ما لم يعجب الست .. فسألها .. لماذا استعادت اللحن عدة مرات .. ولماذا لاذت بالصمت بعدها .
فقالت له: لقد كنت أبحث عن أى غلطة فى اللحن .. ولم أجد … إنتهت القصة .
فى الحقيقة .. إن الموجى تفوق على نفسه فى هذا اللحن ولم يخيب ثقة أم كلثوم فيه وكما قال الموسيقار الراحل عمار الشريعى محللا اللحن .. إن هذا العمل عبارة عن عدة ألحان أو عدة أغنيات فى لحن واحد فكل كوبليه مختلف تماماً عن الآخر..أما كلماته القصيدة المغناة فتقول :
حانة الأقدار عربدت فيها لياليها ودار النور والهوى صاحي
هذه الأزهار كيف تسقيها وساقيها بها مخمور كيف يا صاح؟
سألت عن الحب أهل الهوى
سقاة الدموع ندامى الجوى
فقالوا حنانك من شجوه
ومن جده بك أو لهوه
ومن كدر الليل أو صفوه
سل الطير إن شئت عن شدوه
ففي شدوه لمسات الهوى
وبرح الحنين وشرح الجوى
أيكة الأطيار في أغانيها لشاديها
على الأغصان ثورة الراح
يا غريب الدار مل بنا فيها نناجيها
مع الندمان وأترك اللاحي
ورحت إلى الطير أشكو الهوى
وأسأله سر ذاك الجوى
فقال حنانك من جمره
ومن نهيه فيك أو أمره
ومن صحو ساقيه أو سكره
ومن صحو ساقيه أو سكره
سلي الليل إن شئت عن سره
ففي الليل يبعث أهل الهوى
وفي الليل يكمن سر الجوى
دوحة الأسرار يا لياليها بواديها
هنا يلقاك صبح أفراح
دائر دوار في بياديها يساقيها
على ذكراك بين أقداح
ولما طواني الدجى والجوى
لقيت الهوى وعرفت الهوى
ففي حانة الليل خماره
وتلك النجيمات سماره
وهمس النسائم أسراره
وتحت خيام الدجى ناره
وفي كل شيء يلوح الهوى
ولكن لمن ذاق طعم الهوى
.ولعل من شاهد الفيلم يتذكر كيف أبدع المخرج في التعامل مع تلك القصائد ليضيف إلى إبداع التأليف والتلحين والأداء المعجز لأم كلثوم إبداعا جديدا في تنفيذ مشاهد تلك الأغنيات ،وخاصة أغنية “الرضا والنور” وكيف تخيل وفاة رابعة العدوية وصعود روحها للسماء ترفرف حولها حمائم السلام مرحبة بروحها وهى تصعد إلى السماء.. وتقول كلماتها:
أوقدوا الشموس … انقروا الدفوف
موكب العروس … فى السما يطوف
والمنى قطوف
انقروا الدفوف
الرضا والنور والصبايا الحور
والهوى يدور
آن للغريب أن يرى حماه
يومه القريب شاطىء الحياه
والمنى قطوف
فى السما تطوف
انقروا الدفوف
يا حبيب الروح
تائه مجروح
كله جروح
لائذ بالباب
شوقه دعاه
والرضا رحاب
يشمل العفاه
والمنى قطوف
في السما تطوف
انقروا الدفوف
طاف بالسلام طائف السلام
يوقظ النيام
عهده الوثيق واحة النجاه
أول الطريق هو منتهاه
والمنى قطوف
فى السما تطوف
انقروا الدفوف
رحمهم الله جميعا فقد جمعوا بين العبقرية والإخلاص وجمال الأداء.
Discussion about this post