بقلم الكاتب الصحفي … سعيد الخولى
رمضانيات 2023 (2)
الإمام يهرب من الشباك والمصلون ساجدون!!
وما أبدع ماكانت البرامج الثقافية فى الإذاعة والتليفزيون سبعينيات وثمانينيات وتسعينيات القرن الماضى،ولو ذكرنا بعضها لتملكتنا الحسرة على نصيب الفكر والأدب والشعر حاليا على خريطة القنوات العديدة وهى بالعشرات بل بالمئات،لا تجد للاهتمام بالفكر والأدب والشعر فيها إلا النزر اليسير وعلى سبيل ذر الرماد فى العيون.
وتقفز أسماء لذاكرة من عايشوا تلك الفترات الزاهرة مابين الإذاعة والتليفزيون، ويكفى مثلا زيارة لمكتبة فلان وشاهد على العصر ومع الأدباء الشبان ـ كل ذلك فقط على البرنامج العام. أما التليفزيون فكثير وكثير مابين برامج طويلة وبرامج قصيرة ،بل حى برامج الأطفال كان تهتم بالبعد الثقافى تاريخيا ودينيا وقوميا. وكان أشهر تلك البرامج بالنسبة للمفكرين والمثقفين والأدباء والشعراء البرنامج الشهير”أمسية ثقافية” للشاعر الراحل الكبير فاروق شوشة وفى إحدى حلقاته كان الضيف هو الشاعر الراحل الكبير طاهر أبو فاشا، وكلاهما ابن لمحافظة دمياط، وكان رصيد أبى فاشا لدى المستمعين والمشاهدين كبيرا قبل ذلك بسنوات من خلال الفوازير ومسلسل”ألف ليلة وليلة” بالراديو ثم بالتليفزيون ،وتابعت الحلقة باهتمام فالمتحدثان جديران بالمتابعة ؛المستضيف شاعر درعمى أفخر بانتسابى لذات الكلية التي تخرج فيها، وأعتز بحضورى عدة ندوات شعرية له، والثانى الضيف من ظرفاء المتحدثين أصحاب القفشات فضلا عن غزارة عطائه الشعرى والدرامى الذى يستحق فعلا أن يغبطه عليه كل شاعر يقول أو كاتب يكتب ويؤلف ،ولم يخب شعورى وأن أتابع حديث أبى فاشا عن صباه حين التحق بالمعهد الدينى بالزقاقزيق على ما أتذكر، وكيف أنه وهو طالب صغير حين التحاقه بالمعهد وحين زيارته للقرية تصادف أن كان فجر الجمعة ولم يحضر إمام مسجد القرية فأراد الناس أن يشجعوا الشيخ الصغير ويحتفلوا به فقدموه للإمامة ،ويحكى أبو فاشا أنه أسقط في يده ففي فجر الجمعة لابد من الصلاة بالناس بسورة”السجدة” كما كان معروفا للناس من إمام المسجد،وبالفعل اضطر أبو فاشا لقراءتها وهى تتوسطها سجدة تلاوة جبرية لامناص منها خاصة وهو يؤم الناس.
الموقف الغريب الذى تعرض له أبو فاشا أنه في سجدته اكتشف أنه لايتذكر بقية السورة المفروض أن يقوم من سجوده بالمصلين ليكملها فاستشعر الحرج والعجز،فما كان منه إلا أن أضمر في نفسه شيئا فترك المصلين ساجدين ينتظرون قيامه لاستكمال الركعة وتلاوة بقية السورة ،وعلى رأى المثل الشعبى حط ديله في سنانه وقال يافكيك،ويافكيك هنا لم تكن جريا من الباب إنما قفزا من نافذة المسجد القريبة من الأرض تاركا مأموميه ساجدين، وأطلق ساقيه للريح ولم يتوقف عن الجرى إلا في المنزل متوجها مباشرة إلى مخدعه ليسترجع هدوء نفسه بعد نهاية لحظات نهجانه واضطراب دقات قلبه أسفل غطائه الثقيل وقد كان الوقت شتاء.
هكذا حكى طاهر أبو فاشا عن نفسه فتهالكت ضحكا من الموقف الذى لاأرى فيه سخرية فهو في النهاية تصرف طفولى في موقف لم يستطع تحمل ما ألقاه المصلون عليه من حمل ثقيل فقاده تفكيره وخياله إلى الخروج من المأزق بهذا الشكل ،لكنه كان معبرا عن طفل يمتلك خيالا ، وهو ما تجسد بعد ذلك في كمية نتاجه الإبداعى العالية التي لعب الخيال دور البطولة فيها وجعلته قادرا على أن يقدم مثلا للإذاعة الكثير من الأعمال، أشهرها «ألف ليلة وليلة» التى ألف منها 800 حلقة، على امتداد 26 سنة، وله مجموعة من الصور الغنائية، منها «ملاح النيل»، و«أصل الحكاية»، و«الشيخ مجاهد»، كما أعد سلسلة «أعياد الحصاد»، وهى سلسلة درامية غنائية تمثيلية، وكتب عملا دراميا غنائيا ضخما بعنوان «سميراميس» كان مقررًا أن تمثله أم كلثوم، لكنه توقف لأسباب مختلف عليها، كما قدم للإذاعة مسلسل «ألف يوم» فى 600 حلقة، وقدم مجموعة كبيرة من الأغانى منها «نشيد الجيش»، و«نشيد الطيران»، وغنتهما أم كلثوم.
نشأ الشاعر طاهر أبو فاشا (22 ديسمبر 1908م في دمياط – 12 مايو 1989م) وعاش أجمل أيامه فى قرية كفر مويس، الواقعة على رافد بحر مويس، حيث كان يدرس فى معهد الزقازيق الدينى فى شبابه، وفى شيخوخته زار النهر فانفعلت نفسه، وكتب قصيدة ممتعة بلغة راقية، وصور بديعة للريف المصرى، ومكان اللهو والذكريات فى الرياض اللفاء، والقصيدة عنوانها «رجعة إلى مويس»، يقول «أبو فاشا»: فى مطلعها
وصلَ الرَّكبُ يا نديم فهات، هذه رملتى وتلك رُباتى.
الرياضُ اللفاء والرفرف الخضر، ومغنى الصبا وملْهى اللِّداتِ.
ومغانى عمّاتك النخل فرعاء، صموتا كعهدها قائماتِ.
ومويس السهرانُ راويةُ الحبِّ، وساقى لحونه الثملاتِ.
عمل «أبوفاشا» مدرسا فى مدرسة «عنيبة» ثم بالواحات، وقطع رحلة التدريس بالعودة للقاهرة ليعمل بالفن والصحافة، وراح يؤلف التمثيليات الفكاهية وغيرها، ويختلط ببعض الفرق الفنية التى تمرس، من خلال وسطها الفنى الشعبى، بخفايا الفن، ولما زارت إحدى الفرق مدينة الزقازيق أقام لها إبراهيم دسوقى أباظة باشا حفل غداء، وألقى به الشاعر الشاب آنذاك قصيدة استرعت نظر الداعى، وتعرف أباظة عليه ورعاه، ودعاه للعودة إلى التعليم، فعاد مدرسا بمدرسة دمياط الابتدائية الأميرية، ثم مدرسة المعلمين بسوهاج، وحين أنشئت جماعة أدباء العروبة، انضم إليها.
عينه الوزير إبراهيم دسوقى أباظة سكرتيرا بوزارة الأوقاف، فلما نقل (الباشا) وزيرا للمواصلات نقله معه، وجعله وكيلا لمكتب بريد العباسية، فرئيسا للمراجعة العامة، وانتهى به الأمر فى وظيفة بإدارة الشؤون العامة للقوات المسلحة، رئيسا لقسم التأليف والنشر، وبقى فيها حتى أحيل للمعاش، فتفرغ للشعر والأعمال الأدبية والإذاعية، ووجد طريقه إلى العديد من النوادى والمجالس الأدبية، ومنها ندوة «القاياتى» التى كانت تضم جمهرة كبيرة من أعيان الأدباء، من أمثال حافظ إبراهيم وعبدالعزيز البشرى، وكامل كيلانى، وزكى مبارك.
ولـ«أبى فاشا» ديوان شهير رثى فيه زوجته بعنوان «دموع لا تجف»، ضم قصيدة رائعة كتبها لزوجته «نازلى» التى لقيت ربها فى 29 سبتمبر 1979، وتوفى «أبوفاشا» فى 12 مايو 1989 وكان قد حظى بالكثير من أوجه التقدير، إذ حصل على جائزة الدولة التقديرية فى الآداب عام 1988.
ومادمنا تناولنا إنتاج طاهر أبى فاشا الشعرى والدرامى والأدبى فلابد من التعرض إلى بعض من أجمل ماقدمه من قصائد صوفية رائعة اللغة والجمال وأشهرها”عرفت الهوى”،فإلى لقاء مقبل إن شاء الله.
Discussion about this post