بقلم …سيدة عشتار بن على
من حقّ كل إنسان أن يطمح للنّجاح …من حقّه أن يسعى بكلّ السّبل المشروعة كي يحقّق تفوّقا وتفرّدا… من حق كلّ شخص أن يصنع هويّته الّتي تميّزه عن الآخر ..من حقّه أن يسعى كي تكون موضع اهتمام وتقدير …من منّا لا يزعجه أن يكون كائنا غير مرئيّ ومسموع وسيّان غيابه أو رحيله عن الحياة..كلّنا ترعبنا فكرة الرّحيل عن هذه الحياة دون ترك أثر يذكّر بأنّنا لم نكن مجرّد أصفار على الشّمال لا دور ولا إضافة لها …. ورد في كتاب مبادئ السّيكولوجيا لصاحبه وليم جيمس أنّه لا عقاب اشد شيطانية من أن ينطلق المرء ساعيا في المجتمع دون ان يلاحظه احد أو يدخل لمكان فلا يلتفت له احد ..من منّا لم يعش ولو للحظة تلك الحالة من الوجوم المشوب بالحزن حين يسمع أو يقرأ عن نجاحات الآخرين ويقارن بين حالهم وحاله ان كان واقفا في مكانه دون تطوير أو تغيير .. .. يغالط نفسه والآخرين من يدّعي أن هذه الدّراما التي تجري في داخل كلّ إنسان طبيعي لا تعنيه في شيء لذلك من حق لكلّ شخص أن يسعى لتبوّء المكانة التي يريدها لنفسه لكن في الحقيقة هذا ليس بالأمر السّهل ولا تصدّق تعاليم ما يسمّى بالتّنمية البشريّة وما تغدقه من نصائح في جحافل من الكتب تحتلّ أعلى نسبة من المبيعات ..في كل كتاب عشرون أو مائة نصيحة يكفي أن تقرأها وتطبّقها لتجد نفسك بعد ذلك مباشرة من النّاجحين أصحاب الثروة أو المنصب أو الشّهرة ..أيّ هراء هذا.. الحياة لا تمنح دروسها في مجموعة من التعاليم والتّنظيرات المدوّنة في نصّ أو كتاب واحد ..الحياة أثمان دروسها تأخذها من اللّحم الحيّ ..من أرواحنا ..من أعمارنا. وكما أنّ تحقيق النّجاح أمر صعب في الحقيقة فانّ الأصعب منه هو الاحتفاظ به..نعم يمكن أن نصل إلى النّجاح ثم نفشل بسبب حماقاتنا أو غرورنا أو قلّة خبرتنا أو لظروف اجتماعيّة قاهرة كما يمكن أن نفشل بسبب الحاقدين وأعداء النّجاح الّذين يبدعون في ممارسة الحضيض لوضع العراقيل في طريق كلّ ناجح والشّيطان يكمن في التفاصيل لذلك سوف أتحدّث في هذا الجزء من سلسلة الغول والعنقاء عن هؤلاء …أعداء النّجاح وهم نوعان أوّلهم وأخطرهم المتنفّذون من التّافهين …. في مجتمعاتنا العربيّة بصفة عامّة هناك شريحة كاملة من التّافهين ذوي القدرات الفكريّة السّطحية و محدودي الموهبة والكفاءة تتسيّد المؤسّسات الّتي هي عماد قوّة أي دولة أمّا عن مصدر قوّة الواحد من هؤلاء واستمراره فهو جيش التّافهين الّذين يجمعهم حوله والطّيور على أشكالها تقع أوّلا وثانيا محاربته لكلّ ناجح وصاحب كفاءة حقيقيّة …هؤلاء يمدّون أيديهم الخفيّة لإنجاح من لا يستحقّ وفي نفس الوقت يشهرون كلّ أسلحتهم لتدمير النّاجح والمبدع الحقيقي فبروزه هو وأمثاله يشكّل خطرا على مواقعهم لذلك يجتهد التّافه بتحالف مع أمثاله من التّافهين طبعا لهدم من يرون فيه تهديدا لوجودهم …كيف يكون ذلك …عبر وضع العقبات والحواجز في طريقه لتصفيته معنوّيا …عبر التواطؤ والتّآمر الّذي جعلهم يتربّعون على قمّة المؤسّسات..إنّهم يستميتون لحماية بعضهم البعض ..مبدعون هم طبعا في ممارسة العنف الرّمزي من نبذ و إقصاء و حياكة للدّسائس باستغلال نفوذهم وسلطاتهم…الكثير من الضّحايا المستهدفين حين يجد الواحد منهم في طريق مسدود يلجأ إلى الحيلة و يحاول التّحلّي بضبط النفس كي يأمن شرّ وجبروت هؤلاء المتنفّذين فيضطرّ إلى خنق أنفاسه وإخماد جذوته وتوهّجه وان لزم الأمر تحويل نفسه إلى صفر لا قيمة له كي يرضى عنه السّيد المبدع الكبير في تفاهته لذلك سوف يجد نفسه مجبرا على التّخلّي عن ثمالات الكرامة والكبرياء… سوف يدرّب نفسه على تقبّل اهانات وسخافات من لا يستحقّ في الحقيقة أدنى درجة من الاحترام واستفزازاته…عليه أن يتعلّم كيف يكبت تلك الصّرخة التي تلهب قلبه وتلجمه عن الصّراخ في وجه مضطهده ليقول له ..أيّها الحقير كيف تجرؤ على اهانتي …أيّها الحقير أنت لا شيء لكنّك تذلّني و تبتزّني بقوّة نفوذك أو مالك …عليه أن يتعلّم تقنيات فنّ التطفّل ولعق الأحذية من أجل الحصول على بعض الفتات والاستفادة من فرص العلاقات المربحة …عليه أن يتعلّم العبارات الورديّة الجاهزة…عليه أن يظهر الطّاعة والخضوع ..عليه أن يضع برقعا على وجهه و يتعلّم كيف يتملّق ويزيّف الحقائق بمدح عبقرية التّافه المتنفّذ ومواهبه الخارقة..عليه أن يتدرّب على دور مفسح الطّريق …يذكر أنّ الرّومان فيما مضى كان رجال الأعمال والسّاسة والأثرياء لديهم يتّخذون لهم من بعض الكتّاب والمفكّرين والفنّانين من يلعب دور مفسح الطّريق مقابل أجور طبعا فكان مفسح الطّريق هذا مفكّرا كان أو أديبا أو شاعرا يعضّ على قلبه ويهين نفسه بالسّير أمام سيّده في أيّ مكان يذهب إليه وهذا ما يفعله الكثيرون من أصحاب الفكر والأدب والفنّ في مجتمعاتنا العربيّة لحماية أنفسهم والحصول على بعض المكاسب ..يفسحون الطّريق لأسيادهم وأصحاب الفضل عليهم …إنها قوّة المال والنّفوذ ..طبعا هذا التّعيس في الأرض لن يمرّ كلّ ما عاناه وكلّ ما قدّمه من تنازلات على حساب كرامته وحرّيته ومشاعره وكأن شيئا لم يكن فأيّ حال سيؤول إليه … سوف تتراكم عملاته العصابيّة التي غالبا تحوّله إلى جثّة على قيد الحياة …سوف يتحوّل إلى مسخ إنسان مهما حاول إظهار ما ليس يحمله من الصّلابة والتصالح مع النّفس وطبعا مع الوقت يفقد القدرة على الإبداع ويُقبرُ حيّا والفضل يعود لصاحبنا التّافه العظيم بنفوذه …حفّار القبور الّذي تحدّث عنه نيتشة في قوله( ولطالما مُني الحفَّارون بالأمراض، ففي المثاوي ما ينبعث كريهًا قاتلًا، وخيرٌ ألَّا نُثير من المستنقعات كوامنها، وما الحياة الحياة إلا على القمم، وها أنذا أستنشق الهواء الطلق على أعالي الجبل حيث لا أشتمُّ روائح المجتمع الإنساني …)اختار نيتشة العزلة للهروب من الحفّار ..حفّار قبور المبدعين والأحرار..ذلك الذّئب الجائع الّذي يحيا بموت الآخرين .. يمتصّ دماءهم ويعتصر عروقهم ويهتك أعراضهم ..وهل هناك هتك للعرض أكثر من اضطرار مبدع حرّ إلى بيع نفسه وماء وجهه و دماء قلبه …
أمّا من يحاول الصّمود والتّصدّي فغالبا يجد نفسه ليس أمام غول واحد بل أغوال كيف لا والتّافه من الأغوال يدعم الآخر ..انها معركة وجود واستمرار بالنّسبة لهم وما عساه يفعل ذلك البائس المستهدف في مواجهة الغيلان ..ماذا عساه يفعل وهو الّذي سخّر كلّ طاقاته العلمية أو الفكريّة أو الفنّية للإبداع والابتكار في مواجهة أولئك الّذين جنّدوا كلّ طاقاتهم للتّآمر ونصب الفخاخ في طريق النّاجحين المميّزين (فبرعم الورد يرتجف متضايقا لسقوط قطرة النّدى عليه )كما قال نيتشة فما بالك إن وجد نفسه محاصرا بأعداء تمرّسوا بالمكر وحياكة الدّساس إضافة إلى خبرة في ممارسة الحضيض وأسلحتهم القذرة لا تحصى ولا تعد ..هؤلاء بارعون عادة في الدّهاء والتّقنع وحين يستهدف أحدهم غريما له لا يظهر هو في الصّورة غالبا بل يسلّط عليه مخالب قططه أو قروده الطّائرة الّتي يستعملها ليظهر هو في مظهر المحايد وبراءة الأطفال في عينيه …قد تكون هذه المخالب من حلفائه التّافهين المتنفّذين مثله ..غمزة أو كلمة فيها إيحاء كفيلة بجعلهم يخرجون مخالبهم لنهش لحم الضّحيّة أو إحراقه حيّا وإقناع الآخرين بأنّ في ذلك حرص على المبادئ والثّوابت والمصلحة العامة…. .. كتب رجاء النقاش في تأمّلات في الإنسان قصة سقراط مع قاضي أثينا…. كان سقراط يزداد شهرة ومجداً بحكمته.. والقاضي يصغر ويتلاشى رغم قصوره وعبيده وأمواله..الشيء الّذي أثار حفيظة القاضي فوجّه له تهمة إفساد عقول الشباب والاعتداء على المقدّسات وفي المحكمة دافع سقراط عن نفسه وأبدع في مرافعته التي أبهرت الجمهور مما جعل القاضي يصرّ على التّعجيل بالحكم عليه بالموت ..ظن سقراط أنّ حكمته وبلاغته ستقنع القاضي ولم يستوعب أنّها هي سبب حقد القاضي عليه وبسببها كان قرار إعدامه
المشكلة أن مخالب القطط الّتي يقع استعمالها كثيرا ما تكون من أصدقاء الضّحيّة الّذين يقع شراءهم أو إغواءهم ببعض الفتات …كم من صديق باع صديقه و تحوّل إلى عدوّ في سبيل خدمة مصالحه ليجد المغدور نفسه متخبّطا وسط متاهات من خيبات الأمل والإحباط فيزهد في كل شيء أو يبلغ به الكرب درجة اعتزال الحياة بأكملها لينتهي به الأمر إلى الموت قهرا أو الانتحار في صمت دون أن يدري أحد حقيقة ما عاناه وما حلّ به
هؤلاء الأغوال هم الّذين اختار نيتشة العزلة بسببهم معبّرا على لسان زارا في كتابه (هكذا حدّث زرادتش) بقوله.. (اهرب يا صديقي إلى عزلتك ….لا تقف حيث يصيبك انتقامهم الدّسّاس.. ..وما قُدّر عليك أن تكون صيّادا للحشرات ..إنّهم لصغار أدنياء لكنّهم كثر ولكم أسقطت قطرات المطر وطفيليّات الأعشاب من صروح شامخات )
Discussion about this post