ثمّة ملائكة بيننا، تحرسنا، ويجوز لها الإقتراب منّا والإختلاط بنا، حتّى لا تكاد تفرّق، بينها وبين البشر، ولحكمة ومشيئة، لا نرى أجنحتها. ولا حتّى هالة النّور، فوق رؤوسها. و زوجتي الخامسة، (جيزيلا)، من بين هؤلاء الملائكة الحارسة. عرفتها قبل موت زوجتي الأولى (والدة وحيدتي، ياسمين)، وكان ذلك سنة 1997. يومها، أخذت ياسمين، لتلعب في الحديقة العامّة وراء البيت. وهي في الثّالثة من العمر آنذاك. وكانت (جيزيلا) تجلس على أحد المقاعد الخشبيّة هناك. ومن دون كلّ النّاس، اتجهت ياسمين صوبها وراحت تكلمها بلثغتها الفاتنة. ويا لو رأيت ذلك الإشراق النّورانيّ الذي ارتسم على وجهها، في تلك اللّحظة. أقسم بالله العظيم. رأيت هالة النّور فعلا، وللمرّة الثّانيّة في حياتي. وكانت الأولى على رأس جدّي الصّالح، (صالح)، قبل عودته للسّماء. وبقينا نلتقي كلّ مرّة في نفس الحديقة. وكانت ضحكتها تُحيي العظام وهي رميم. ضحكة مُشرقة، صافيّة، بديعة…ولم تمض سنتان، حتّى لبّت (نجوى)، أمّ ياسمين، نداء ربّها، بعد صراع قصير مع السّرطان الخبيث. وماتت أمّي بعدها بأشهر…فتزوّجت بمدرّسة ياسمين في الرّوضة، وكان بيننا وفاق. ولم يستمرّ زواجنا أكثر من ستّة أشهر. كانت تريد أن تعزلني عن أيّ شيء له علاقة بتونس، وكانت تغار من كلّ شيء بشكل خانق. وطبعا لم أتحمّل. فتزوّجت من جديد من سيّدة عظيمة، لكنّ ياسمين لم تكن تحبّها…. كانت تبالغ في عناقها. وابنتي تنفرُ من المبالغة، في أيّ شيء. وخاصة في ترجمة العواطف بالقبل والعناق. فلم نكمل الشّهرين معا. وقد توفيت هي أيضا بعد طلاقنا بفترة وجيزة بسبب المرض الخبيث، حتّى لا يترك لي القدر غيرها: (جيزيلا)…. وفعلا، عرضتُ عليها أن نعيش معًا في نفس البيت، ونتقاسم تكاليف كلّ شيء وتساعدني على الإعتناء بياسمين. وكنتُ أتكلّم، وعينها تفيض بالدّموع. قالت لي أنّ القدر حرمها مُبكّرا من الإنجاب، وأنّها كانت ترى ياسمين في منامها، وباستمرار، قبل ولادة ياسمين بسنوات وسنوات…..وكان ذلك كذلك. وانتقلت مع ياسمين للسّكن ببيتها. ويا كم كانت مُتعلّقت بياسمين. ويا كم كانت ياسمين متعلّقة بها. ويا ما كان ذلك يُسعدني، وأخيرًا أمكنني أن أطمئن فعلا على نور عيني وحبيبتي الياسمين….وكبرت ياسمين.
سنة 2008, سافرتُ لحضور معرض الكتاب بالقاهرة. ومُصادفة، إلتقيت بالروائيّة الكبيرة، د. سهير المصادفة. كنّا قد درسنا بموسكو في نفس الفترة في أواخر الثّمانينات. وسكنّا بنفس المبيت الجامعي. وكنت أكنّ لها احترامًا كبيرًا وكانت بالفعل وستبقى، أنبل وأنقى من عرفتُ في حياتي من العرب، وأكثرهم ثقافة واطلاع. والأكثر رقيّ وعزّة نفس وعشق لمصر وهواء مصر وتراب مصر واشجار مصر وسماء مصر. وتزوّجنا وعشتُ معها عشر سنوات مراوحا بين القاهرة وميونيخ حيث ابنتي مع جيزيلا. شهر هنا. وشهر هناك. وساءت حالتي المادية كثيرًا، فقد كنت أعوّل على بعث مشروع ضخم وهو (دار نشر وتوزيع) محترمة. ولكن جاءت الثورة وما اعقبها وفشل المشروع . ولم يكن لدي دخل آخر. وزاد الطين بلل، أنّ سهير مسكونة بعشق مصر، وتختنق حين تسافر حتّى ولو لأيام قليلة. لم أرَ في حياتي بشر يعشق بلاده مثلما الحال سهير المصادفة. وكان ذلك هوّ السّبب الرّئيس وراء طلاقنا بعد عشر سنوات من أثرى وأروع سنوات حياتي. فقد بدأ المرض يشتدّ بي ولم تكن مصر المكان المناسب الذي أتعايش فيه مع قدري ومرضي، أبدًا، كان ذلك من المُحال. فكان الطلاق بالتراضي بيني وبين سهير وكانت وستبقى. علامة فارقة في حياتي. وهي فعلا علامة.
وعُدتُ لميُونيخ نهائيّا، وسألتُ جيزيلا:
– هل تقبلين الزّواج بي وأنا مريض ونصف أعمى ونصف كسيح ؟!…… فردّت ضاحكة: – كنتُ يقينًا، بأنّك ستعود، وتعرض عليّ الزّواج يومًا ما. ولكن بعد أن تسعى بإخلاص وهمّة وراء حلمك…. ولذلك كنتُ أتابع زيجاتك خلال ربع قرن. وبصراحة، لو أنّك كنت طلبت مني الزّواج حال موت زوجتك وياسمين في الخامسة من العمر، لرفضتُ، لأنّني لم أكن لأثق، بأنّ السّندباد فيك سيستقرّ….. أمّا الان فأظنّه تعب. وآن الأوان أن تتصالح مع هذا البلد المُتجهّم…. وفي الحقيقة، هوّ ليس متجهّما، ولكنّه لا يستقبل الجميع بالأحضان ولا يُبالغ في صرف شيكات عواطف بدون رصيد…
وتزوّجنا …..
وأظنّها الخامسة والأخيرة. ولكن من يدري…
وعمومًا، وسواء كانت المحطّة الأخيرة، أم كان غير ذلك. فأنا يقين، بأنّ جيزيلا، ملاك حارس ولكنّها تُخفي جناحيها……
(كمال العيّادي الكينغ)
Discussion about this post