غادرت بهو المطار تدفع عربة حشتها بالحقائب المختلفة الاشكال والألوان.. غادرت المطار شاحبة الوجه زائغة العينين.. نظرت يمنة ويسرة فما ارتطمت عيناها بقريب أو عزيز.. علم الكلّ بقصّتها فلم يكلّف احدهم نفسه عناء استقبالها بعد سنوات طوال من الغربة.. منذ سنوات خمس بعد زواجها حطّت رجلاها رحاب المطار الذي ألفته وألفها.. يومها كان الجميع بآنتظارها.. هنا كان الجميع في استقبالها.. حينها عادت مثقلة بالهدايا لينال كل واحد منهم نصيبه باسما شاكرا.. واليوم.. هذا اليوم المظلم تعود أيضا بعد غيبة طويلة.. تعود بالخيبات والمواجع.. حقائبها محشوة بالدموع والقهر.. من يجرأ على استقبال فاشلة.. فشلت في المحافظة على زوج ثريّ.. من يجرأ على استقبال مطلّقة عاقر.. لم تذنب في حقّ أحد وأذنب الكلّ في حقّها.. أي ذنب اقترفته كي يقسوَ الكلّ عليها.. نعم لم تنجب أبدا.. لم تخلّف لا ولدا يرث ثروة أبيه ولا بنتا ترث جمالها.. عاقبها حبيب الأمس وطلّقها لانّها لم تملأ بيته بصراخ مولود يعطّر دنياه.. عاقبتها حماتها فحرمتها من بيتها لأنّها لم تمنحها لقب جدّة.. حتى قلب الأمّ عاقبها.. عاقبها لأنّها لم تعرف كيف تحافظ على جيب زوجها المثقّل بالأورو.. عاقبها إخوتها لأنّها عادت خاوية الجراب وربّما خافوا أن تثقل كاهلهم بطلباتها وبآحتياجاتها.. ما أدركوا أنّها تحتاج قلبا دافئا.. أنّها تحتاج حضنا آمنا.. هي الآن في أشدّ الحاجة إليهم.. تحتاج حنانهم.. تحتاج سندهم.. مؤازرتهم.. لم تحتجهم يوما كما تحتاجهم الآن.. هاهم يخذلونها منذ اللحظة الأولى.. تسلّل فراغ قاهر يحتلّ تجاويف فؤاد قست عليه الأيّام.. تسلّلت دمعة حارقة ألهبت وجنتيها.. تدفع عربتها كأنّها تدفع غربتها.. باتت غريبة في وطنها.. لم تشعر بجانبه يوما بالغربة.. ولم تحتج إلى صبيّ يؤنس غربتها.. كان كلّ شيء في حياتها.. كان الحبيب.. الصّديق.. الرّفيق.. الأخ.. الأب.. الإبن.. الزّوج.. كان بلسم الجراح ومنبع الأفراح.. ما احتاجت يوما غيره.. هو خفقة الفؤاد إذا أشرق الزّمان وهو الغروب اذا آكفهرّ المكان وتدافعت نتوءاته تعرقل مسارا بهيّا.. ما فكّرت يوما في تقلّب الأحوال.. أمنت بجانبه غدر الزّمان.. ما احتالت عليه يوما وما رغبت في تأمين حياتها.. أمنت إليه.. به سعدت ومعه عشقت فصول حياتها.. بهجتها في رفقته.. الليالي التي قضتها في أحضانه كنزها ولا تحتاج كنزا آخر.. مرّت السّنون متلألئة.. لا يشوبها سواد.. شيء واحد كان ينغّص أحلامها كلّ شهر.. لمَ لا يختفي هذا الحيض ليعلن بداية مرحلة جديدة من حياتها.. لكن سرعان ما ترضى بنصيبها وتستعيد ابتسامتها.. فيعاودها الحبّ والحنين إليه.. تغدق عليه فيض أنوثتها.. تغرقه في حنانها.. تنسى في وجوده مواجع الخريف.. تعيش في قربه ربيعا بديعا.. تنهل من غرامه بلا حدود.. يغرقها بحبّه الكبير.. كريم لحدّ الموت وصله.. امتدّت سعادتها حتّى حجبت عنها جحافل الشّقاء.. وكان ذاك اليوم الذي انقلبت فيه موازين حياتها.. عاد متأخّرا.. هرعت لآستقباله وقد كستها المخاوف كساء رماديّا.. ألقت بنفسها بين أحضانه لتستلهم منهما الأمان.. اهتزّت وكأنّها تعرّضت للدغة أفعى سامة.. ماهذه الرّائحة التي علقت بثيابه وآستوطنت جيده.. صرخت:
-أين كنت ومع من كنت؟
أهمل سؤالها ودفعها عنه متوجّها إلى غرفة النّوم.. لحقت به خائرة القوى.. تجرجر رجليها جرجرة موجعة.. كرّرت السّؤال.. نزع عنه ثيابه ودلف السّرير منتشيا.. اهتزّت داخلها غريزة الأنثى.. شعرت وكأنّ الحياة جذبت من تحتها بساط الأمان.. مادت أرضيّة الغرفة تحت رجليها.. اشتمّت رائحة الخيانة.. الخيانة كما الموت لا يمكن إخفاءها.. جلست بجانبه تلتقط أنفاسها الرّاكضة وراء الأسى.. سرعان ما غطّ في نوم ثقيل.. لم تشأ أن توقظه.. أجلّت أحكامها إلى صباح اليوم الموالي.. لم يكحّل النّوم جفنيها.. وكيف للنّوم أن يغازلها وبساط السّعادة قد سُحب من تحت رجليها.. أغدا تزول مواجعها أم تحطّ أحزانها على جدار الصّدر فينتفض هناؤها؟
(يتبع)
Discussion about this post