ذات مرة كان الحاج عبد الرحيم يدخن سيجارة بسطح العمارة، و كان جالسا بالقرب من زوجته التي تعلق الملابس بحبال الغسيل، ينظر بتمعن إلى المباني و الأنهج و العربات و يفكر في مستقبل إبنه “سلمان” المنقطع عن الدراسة منذ ثلاثة سنوات، و الذي شغل تفكير أبيه بمناوشاته مع الجيران و مشاكله مع الناس، الأمر الذي جعل أغلب أبناء الحي يتوجهون نحو الحاج للتشكي و للتدخل قصد ثني إبنه عن تصرفاته. كانت في المقابل زوجته تغني بصوت ضعيف لا يكاد يسمع، لكن يمكن لشخص فضولي أن يعرف الأغنية و صاحبها فقط من ألحانها، و كان الحاج لا يتلذذ الصباح إلا مع صوتها الريفي الصلب. لقد أخبرها أنه محظوظ لأنه عرفها و أنه أكثر حظا حين تزوجها، و كانت هي تتظاهر بأنها لا تبالي، في حين أن قلبها يكاد ينشطر من شدة الفرحة.
هو جالس اليوم ككل يوم، على كرسي قديم و أمامه قفص عصافير مهجور، جعل منه طاولة صغيرة يضع فوقها طبقا به إبريق شاي و كأس بلوري صغير و يضع فوقها أيضا حبقة جميلة و يانعة، و نفاضة سجائر بالرغم من أنه ينفض الغبار دائما خارجها. يلقي بحبات الشعير ليلتقطها الحمام، و يتفحص جريدته المفضلة و يقرأ القسم المخصص بـ”أروقة المحاكم” بتمعن، و إمرأته تجلس على آجرة و أمامها إيناء كبير به ملابس و مساحيق الغسيل و الماء، و تغني و تغسل. فجأة، لاحظ الحاج عبد الرحيم وجود حركة ما بالشقة التي تقابله مباشرة، و التي تنتمي إلى العمارة المجاورة و لا يفصلها عن العمارة التي يقيم بها غير زقاق ضيق حجبت سماءه أغصان العنب و الياسمين التي صار من الصعب معرفة مكان جذورها و مكان إرتماءها. هي حركة غريبة تثير دهشة من يلاحظها، و خاصة دهشة الحاج. واصل هذا الأخير مسك الجريدة لكنه أبعد عيناه عنها، و تمعن في تلك الحركة لعله يتوصل إلى حقيقة الأمر. و كثرت في ذهنه تساؤلات من قبيل: من هو الذي يتحرك من وراء النافذة ؟ هل تكون خديجة صاحبة تلك الشقة ؟ و ماذا تفعل ؟ إنها خديجة ! لكن من برفقتها ؟ هل هو أحد أقاربها ؟ أم إحدى جاراتها التي تعودت زيارتها في مثل هذا الوقت من الصباحات ؟ و تبقى تلك الأسئلة دون مجيب، تماما كأسئلة العاطلين عن العمل، و أسئلة المرضى و الموقوفين.
خديجة هي إمرأة أربعينية توفي زوجها و تركها وحيدة دون أولاد، لقد مر على ذلك الوقت عدة سنوات لكن رغم ذلك فهي لا تزال مهتمة بنفسها و كأنها مراهقة، ترتدي أفضل الثياب و تضع مساحيق التجميل بعناية فائقة، و لها إبتسامة يمكن أن تفعل بالناس ما لم تفعله بهم المخدرات. هي محل إهتمام كل رجال الحي تقريبا، لأنها خشنة التصرفات رطبة المشاعر، تتصرف و كأنها مقاتل روماني وفي، و مشاعرها كمشاعر طفلة صغيرة تحزن و تفرح لأبسط الأمور. إتضح للحاج عبد الرحيم بعد ذلك أن خديجة بصدد تجفيف شعرها المبلل بعد الإستحمام، و لا ترتدي غير منشفة وردية اللون بالكاد تغطي صدرها و ركبتيها. لقد شعر الحاج في تلك اللحظة أن عمره لم يتجاوز الثلاثين سنة، و هو مستعد في هذه اللحظة للقفز من سطح العمارة إلى شرفة خديجة. إلتفت إلى زوجته ببطئ شديد، و ما إن إستقرت عيناه على وجهها حتى وجدها بدورها تنظر إليه مبتسمة إبتسامة صفراء توحي بغضب داخلي رهيب، رغم أنها لم تشاهد شيئا لأن زوجها يجلس أمامها و يحجب عنها رؤية غرفة خديجة، و هذا من حسن حظه. بادلها بدوره إبتسامة جافة لا تعكس أي فرحة داخلية، ثم تظاهر بقراءة الجريدة لكن عيناه أقامتا جسرا غير مرئي بين العمارتين، فقالت له زوجته: “ما بك يا رجل ؟ هل تفكر في أمر ما ؟” فرد عليها بدهشة بعد أن شك أنها فهمت الأمر: “لا لا، بالعكس. أنا أقرأ” و خديجة في المقابل تنظر إلى بلور النافذة تارة و كأنه مرآة، و تدير ظهرها تارة أخرى فتزيد من جنونه. توقفت زوجته عن الغسيل و قالت: “نصف ساعة كاملة و لم تغير الصفحة يا عبد الرحيم” و إستأنفت عملها. كاد المسكين يتوقف قلبه في تلك اللحظة، و شعر بتعرق غير عادي و برودة تجوب كل جسده، و أجابها: “لا لا، مقال طويل أقرأه بتركيز”.
واصل الحاج بعد ذلك مشاهدة العرض، يتأمل شعر خديجة الطويل و الأسود، و لحمها الأبيض المتماسك و المبلل إثر الإستحمام، و بداخله بركان مشتعل، و قال دون إرادته: “كيف لمرأة حلوة كهذه أن تبقى دون إرتباط ؟” فصاحت زوجته: “ماذا ؟” حتى أغمض عينيه من شدة صيحتها، و طار الحمام الذي بالسطح. نزع الحاج قبعته و فرك شعر رأسه و أرجعها لمكانها و قال لها بكل هدوء: “إنه نفس المقال يا إبنة الحلال، إنه نفس المقال” و شرب كل الشاي الذي في الكأس. في هذه اللحظة بالذات شاهد رجلا بغرفة خديجة، ما هذا الخبر الأسود الملعون يا حاج ؟ دقق في النافذة طويلا بعد أن أحبس أنفاسه، و تخلى عن الشاي و عن زوجته، و عن الحمام و عن كل العالم. يريد أن يعرف هوية ذلك الرجل، و سبب دخوله غرفتها، و كل شيء. لقد تعلق عبد الرحيم بخديجة و صار يحبها دون أن يعلم أحد ذلك، و يغار عليها حتى من القطط المتواجدة بشرفتها. لقد فكر كثيرا في تزوجها و التخلي عن زوجته الأولى كلفه الأمر أن يهبها دكانه و أرضه الفلاحية في البادية، لكن ما منعه من ذلك هو إحترامه لزوجته الصبورة و الطيبة. لكنه بعد ذلك فكر في تزوج خديجة عرفيا إن قبلت بذلك، فهو يعلم كل العلم أن السلطة لا تعلم بذلك إلى الأبد، حتى و إن بلغها الأمر. لقد إحتضنت خديجة ذلك الرجل بمنشفتها المبللة، فوقف الحاج من شدة الغضب، و إحمر وجهه و صغرت عيناه و صار جسمه يرتعش. خديجة تضحك الآن و معالم الرجل الذي برفقتها غير واضحة، و ها هي تسحب الستائر لتحجب الرؤية تماما. إنفجر بركان عبد الرحيم الآن، و ركل قفص العصافير بشايه و حبقته و نفاضة السجائر التي فوقه، و شتم الصباح و شتم زوجته، و شتم نفسه أيضا و كل المتساكنين، و مزق الجريدة و توجه نحو الدرجات. لم تفهم زوجته أي شيء، خاصة أنه سحب معه حبل الغسيل بما عليه من ملابس، و قالت له بغضب مقيت: “ماذا دهاك يا رجل ؟ أمرك غريب هذا الصباح ؟” فتوقف و رد عليها: “أين سلمان إبنك ؟ أخبريه بأن يجلب لي دواء السكر من فوق التلفاز” فقالت له: “لقد ذهب ليصلح تلفاز جارتنا خديجة” فسقط
Discussion about this post