ما أن ولج بطلنا من بوابة القصر الرئيسية إلا وكأن السماء قد بدت متجهمة وتلبدت بالغيوم وعكر الجو وكأنها تشاركه ما ينتظره من مجهول المصير….
فازدادت ريبته من هذه الكآبة وبدأ القلق يستشري في صدره …
مر بالنافورة وتذكر الأيام التى جمعته عند رقراق مياهها مع حبيبة روحه وأول خفقات الحب تحت شجرة المسك الوارفة فرفع يده عاليا وكأنه يلقي عليها التحية لبقائها على عهدها إذ اشتم نوافج المسك تضوع منها في كل الأرجاء…
اقتاده الخدم لمكان أبيه فاصطحبوه فى أردهة القصر الواسعة حتى نزلوا به على درج السلم السفلى المؤدى الى القبو القديم تحت القصر والذى ماكان يستخدم الا لتخزين بعض متروكات القصر القديمة …
فأخذت الشكوك تساوره ما السر وراء تواجد أبيه فى هذا المكان وما أن تم فتح حجرة ضيقة الجنبات والتى لا ينفذ إليها الضياء وليس لها مخرج هواء إلا ووقع عينه على رجل ناحل الجسم دقيق العظم يرتدى بعض الأسمال البالية فلم يكد أن يعرفه حتى التمعت عيناه ببريق فرحة اللقاء فتحقق بأنه أبوه وكم ذهل عند رؤية ذلك فارتمى على كتفه مرتجفا من هول الصدمة
قائلا له :
هوذا تبدت الحقيقة أمام عيني واضحة فأنت وقعت أسيرا تحت قبضة هذا الطاغية يا أبي الحبيب فأمعن فى إذلالك وتسبب فى إعيائك عند وقوفه على جلية الأمر واستقصاء السر
وأخذ ينتحب ويقول :
ياليتني لم أولد ولم أكن يوما السبب فى هذا الضيق العظيم الذى ألم ّبك
ياويلي انسقت وراء مشاعري فساقني نزقي إلى سوء المآل فقضيت على أبى زين الرجال ….
فربت أبوه على كتفه بصوت يغلفه الوصب والكلال
وقال :
ها قد استجاب الله دعوتي وحقق أمنيتي
وكحل عينى برؤيتك مثلما أسعد قلب يعقوب مسبقا بلقاء ولده يوسف
لكن اسمع منى يابنى جيدا فلم يعد هناك مزيدا ً من الوقت فاسمع كلمتي وخذ بنصيحتي
إن هذا الباشا هو رجل شديد البطش عديم الرحمة فامتثل لطاعته واتق شر غضبته فانك لا تقدر على الوقوف أمام شديد سطوته
ارح نغسي حتى اطمئن عليك وانا فى جدثى
فزاغت عيناه وانطلقت روحه الى بارئها
فوقف ولده مفزوعا من هول الصدمة ليصرخ صرخة العويل التى كادت أن تشق عنان السماء وأخذ ينتحب وهو ثاكل مفزع :
وااارحماااه …. واحر ّ قلبااااه ……
لا تتركني يا أبتى يا ظهرى ويا سندى……..
يا من تقوس ظهرك منكبا على الحياض حتى تروينى من حبك الفياض
يا من تحملت الحر واللهيب حتى تمنحني شرف لقب طبيب
يا من تضورت جوعا لتسد خلتى ومن شر السؤال تكفينى
يا من تعريت فى قر البرد حتى تشتري لى أنا الثياب وتكسيني
آه يا أبى وألف آه ………
ولم يمهلني القدر حتى أعوضك عن تعب السنين فتشعر أنك انجبت خير البنين
وأنشأ من الألم يقول :
نم يا أبي قرير العين
ولا تخشى على ّ من شر الزمان ِ
فقد جلدنى على ظهرى
فناحت نفسي من الأشجان ِ
سدد سهامه حتى نفذت
كنانته من كثرة ما بها رماني
لن أعد أبالي بشيء
فلقد تساوت أفراحي مع أحزاني
ثم قبل يديه وجبهته كوداع أخير ….
وخرج هائما على وجهه والدموع تهمع كما من سيل جارف حتى غشيت نظره بسحابة كثيفة والهموم تراكمت ثقيلة بين جوانحه .
طل يمشي متثاقل الخطى يتحسس الحوائط كأنه تائه فى عاصفة رملية تتقاذفه وتغشى بصره….
فظل يتمايل كالشارب الثمل لا تقوى قدماه على حمله حتى وصل على باب حجرة الباشا الجالس على مكتبه كالليث القابع فى عرينه منتظرا لفربسته كى تأتى واهنة القوى مثخنة الجراح معلنة للإستسلام ومقرة بضعفها وعدم تساوي قوتها وإياه….
وما أن وقع بصره عليه حتى شعر بزهو الانتصار وامتلأت روحه بغل الانتقام فقطب جبينه وحدجه بنظرة شزراء كاد الشرر يتطاير منها ليردفها بصوت أجش مخيف كادت جنبات الحجرة ترتج من دويه
قائلا : ……….
Discussion about this post